أهدى هذه السّطور المتواضعة إلى روح شيخي ومعلمي( محمّد مرانت منصور).. ولكلّ حبيس ضمير في إرتريا....
ثمّ أهديها إلى الشّباب في جنيف ولندن وملبورن والسويد والنرويج , بعد التحيّة والإجلال والعرفان ..أهديها إلى هؤلاء وأولئك جميعا , لأنّهم وقفوا أمام سفارات النّظام والسّاحات العامة , ليسمعوا صوت المكومين, و ليقولوا كفى لقد طفح الكيل!!!
عزيزي القارئ الكريم أين ما كنت هذه المحاولة الثانية من محاولاتي لتوثيق أحداثا رأيتها بأم العين, أو سمعتها من أقراني , أو ممّن رأى الشمس قبلي من الإخوة والأخوات , أو الآباء والأعمام أو الأمّهات والخالات, أضعها أمامك راجيا من الله العلىّ القدير, أن يوفقني في نقل الصّورة كما ينبغي, وأن تشاركني بالملاحظات, والتصحيح, لأن الأحداث تأريخ, والتأريخ ملك للجميع من صنعه ومن شاهده, ومن سمعه ومن كتبه ....
صانع الحدث اليوم والذي أريد أن أغوص في تفاصيل قصّته,-سجنه الأول والثاني, والثالث, والذي لم يعد منه حتّى كتابة هذه الأسطر المتواضعة, هو رجل,أشترك و صنع وقاد جزء مهم من العمل الوطني, والجبهجى في قلب مدينة (كرن) وضواحيها,منذ منتصف الستينيات, وحتّى بداية الثمانينيات, من القرن الماضي فكان, عنوانا للوطنيّة,ثّـابتا قنوعا شجـاعا وملهما للصّـابرين والمناضلين وقلعة للنّضـال في المدينة شيخي ومعلمي: محمّد مرانت منصور أبن عنسبا ورجل وازنتت الغيور ...
كنّا في الفصل الأول في معهد كرن العتيق وكـانت الحصّة القرآن الكريم وصاحبها المعلّم والمربى الكبير الأستـاذ الشيخ (محمّد إدريسـاى) وّتلتها حصّة (التوحيد) وكتاب الشيخ العقباوى وكان صاحبها الشيخ الصّامد والصّامت إلا عن ذكر الله (الحاج حامد).
خرجت من الفصل مستأذنا المعلّم لقضاء الحاجة, وكــان يجب أن أمرّ بالفصلين الثاني والثالث لأنّ الفصل الأول كـان في بداية المعهد الديني الإسلامي والأقرب إلى المسجد ومدخل المعهد من نــاحية منزل العلامة الشيخ (قـاضى موسى عمران) ولأن بيت الأدب في الفناء الخارجي من الجهة الشرقية للمعهد و المطل على الجزء الشرقي والشمالي الشرقي من المدينة, والآن المعهد والجامع مبنيان على تلْ يعلو في تدرّجه كلّ مـا اتجهنا نحوهما والحي المجـاور لهما(حلّت جـامع) أو كمـا كـان يسمّيهـا البعض حلّة (عد سيّد) من ذاك الفنــاء ترى كلّ حركة داخل البيوت والشوارع في حلّت (عد عقب) والسجن الكبير وترى حرسه من الجهة الخلفية ..... ترى الفقراء والمساكين وهم يقرعون الأبواب أو يردّدون كلمة(لا إله إلا الله محمّد رسول الله) بلحن جميل أخّاذ راجين رحمة من ربّ رحيم ,وما تيسّر من صدقات وحسنات, من سكّان (عد عقب) و المدينة( الثّائرة) كرن (طعدا) التي ,ضربت أروع المثل في التعاضد والتراحم والتكافل الإجتماعى المنقطع النّظير.
وفى تلك اللّحظات من أجواء المدينة وصمت الأوقات الصباحية وهدوءه فيها, لا تسمع إلا أصوات (طواحين الذرة) في سوق السّـاحل وأصوات الضرب على الحديد في سوق الحدّادين (سوق برّا).. ولكن أذني التي تعودت على سمـاع أصوات إطلاق النّـار بين كلّ فترة وأخرى لم تخني أيضـا هذه المرّة....
وقفت برهة من الزمن لأميّز بين أصوات الطّلق النّارية وصخب الضرب على الحديد القـادم (من سوق برّا).. وصرت أقدّم خطوة وأؤخر أخرى,ثم أتوقف وأسترقّ السمع لأستبين مــا أسمع ..وتيقّنت أنّه إطلاق نار ....
و بالرّغم أنّنـا من الجيل الذي رضع الخوف وعـاش في طفولة رصيدها حرب ومعـارك نصحو من النوم بعد حلم مفجع فيه حربا ضروس تأكل كلّ أخضر ويابس,وأحيانا نحلم نهارا جهارا بمعركة لا وجود لها في الواقع, وحينا نصرخ ونهرول نحو البيوت والحوانيت من انفجار إطار سيّارة,أو أي صوت آخر يشابه صوت إطلاق نار , أو يفزعنا أحيانا صوت طائرة مروحيّة تتربّص بكلّ بريئ وطالب حقّ, وأحيانا تمطر جبلنا (أيتعبّر) أوراقا كلّها تهديد ووعيد, وصورا لأمريكان إختفو أو أختطفو,ويحادثنا منها أحدا من بنى جلدتنا بالتقرايت والتقرينية قائلا:(سمعوو... سمعوو... سمعوو وأتنسو شعب كرن...إمبراطور إتيوبيا هيلى سلاسى لبلكّم هلا إلوم نسوآم لهلوْ ولاد دولة أمريكا إقل ناسآمم لهلّوأسّئولوم إقل لبلوسوم...إت إلن كلى أمعل إى أقبلو منى قبئْ إيتحيسكومنى لبلكّم هلاّ هيلى سلاسى بولوم... إلّى ودحنكم... سامع لهلاّ إقلاّ إى سمعا لأسئلْ) يقول الرّجل المتحدّث من الطائرة(أسمعوا... أسمعوا واعووا يا شعب كرن, إمبراطور إثيوبيا هيلى سلاسى يقول لكم بلّغو أبناءكم إنّ الأمريكان المختطفين يجب أن يعودوا في خلال يومين وإلا سوف لن يحصل خير, هذا.. ومن سمع الخبر يبلغ من لم يسمع )...ونحن الأطفال لا نعير الحديث كثير اهتمام نتسابق لتلقّى حزم الأوراق تلك لنرى ما بها,والأمّهات يولولن خوفا علينا,( أقبلو سلاح إي للكفو ديبكم) أرجعوا حتّى لا يرموكم بالرّصاص!!!!!لا أحد منّا فكّر في أن دّولة الإمبراطور بجلالتها وهيبتها أن ترجم أطفالا بالطائرات,وتسرق ما بقى من براءة الطّفولة في نفوس أطفال الحي (إيتعبّر) والمدينة عامّة , أو تحصد أرواحا لشيوخ ونساء بالرّشاشات, لم يخطر ذالك ببالي ولا ببال أحد من أطفال (إيتعبّر)...حتّى كانت (عونا)
إنّه منظر عجيب !!! عندما أعود بالزّمن عقودا إلى الوراء!!! براءة أطفال تتحدّى جبروت الملك, لا يهابون الموت لسذاجتهم, ولكن الساذج الأكبر كان الإمبراطور وجنرالاته, وحاشيته الفاسدة,ومعاونيه من الإرتريين, يبحثون عن أمريكان الذين اختطفوا في جبل (إيتعبّر) كما يزعمون. كم من مرّة أتى إلينا هؤلا أمريكان ولم نؤذهم بشيء يأتون من مقرهم في (جراند هوتيل) فى الجزء الغربي من المدينة وبالقرب من (فيروفيا) محطة السكك الحديدية, يتفرجون على المدينة من ّ حيّنا المرتفع في (أيتعبّر) حيث كانوا يهابون طلوع الجبل ولكنّهم كانوا يلتقطون الصّور من حوافي للمدينة!!لم يؤذهم أحد بل كانوا يحيّيهم البعض ممّن عرف بعضا من لغة (آل جون كندى) تسمع بعضهم يقول للأمريكان (هــاو آر يـو) فيردّ الأمريكان التّحية.. ولكن لا يفهم أحدنا حرفا واحدا ممّا يقولون .. كان يرافقهم أطفال في اعمارنا يأتون بهم إلى (إيتعبّر) كانزا ينظرون إلينا ويبتسمون ومثل البكم الصمّ نستعمل لغة الإشارة أحيانا... يهبطون الأمريكان المدينة حيث يشترون (مقاعد الجبان) وقلادات (السوميت) فى (سوق برّا) ولم يعترض طريقهم أحد ونحن أطفال جبل (إيتعبّر) كنّا نذهب اليهم في قاعدتهم (قراند هوتيل) لا للتجسّس عليهم أو لمعرفة ما يدور في تلك البناية الجميلة, ولكن لنشاهدهم وهم يلعبون الكرة الأمريكية أو لعبة (الهوكى) .
وأنشأ بعض صبيان الحىّ والمدينة علاقة حميمة معهم حتّى لقّب بأسماءهم, فأصبحت الأسماء (ياسين جون) و(عبدالعزيز كندى).. وأتويوما إلينا فى جبلنا (إيتعبّر) ونحن نصطاد الجراد الّذى حجب الشمس عن المدينة ,نشويه حينا وننظمه في شرائح من (الزّعف) أحيانا أخرى..جاءوا إلى حينا بسيارة( لاندروفر) قويّة ومعم مترجم كان ذلك أول يوم تمر فيه سيّارة في حيّنا العتيق..وتقطع طريق السكك الحديدية وتقف على حافّة الجبل.. وعندما اتجهت نحونا.. لم نهرب ولم نفزع.. لأنّنا لم نكن نعى هل يراد بنا خيرا أو يضمرون لنا شرّا.. قاموا بتصويرنا في مواقف مختلفة وشكرونا ومضوا إلى حال سبيلهم. ونشروا صورنا في صحفهم في ما بعد ونحن نتقلّد أحزمة من شرائط الجراد...حملها لنا إلى كرن أحد الأعمام ممّن له صلة بالحكومة والقاعدة الأمريكية (كانيو إسيشن)... ولذالك لم نضمر لهم شرّا ولم نختطفهم ولم يخيفهم أو يخفيهم أحدا فى( أيتعبّر) وفى المدينة... ولكنّ الملك وزبانيته أصرّوا على البحث عن الأمريكان في أكواخ المواطنين الآمنين.. فى كوخ(عيربايت) التي تعيش على حافة الجبل من عطاء المحسنين في الحي وفى قلب المدينة,,يبحثون عن أمريكان في كوخ ( حلتو واويت ) والتي تعيش في الحي مع أبنتها من ضفر وتصفيف شعر النساء بعد أن هجرت قريتها في الضواحي لما أصابها من قحطِ في الزّرع والضرع,وأنتقل ربّ الأسرة إلى الدار الآخرة والتي قالت لإحدى بنات الحي:
(ميتو مى لبل هلا جانهوى) مذا يقول الملك(جانهوى) وماذا يريد؟
قالت لها الشّابة عرّيت:(هيلى سلاسى تو أميريكان بدو منى لبل هلا.. وإى أقبلو من قبئ… إي حيّس إكمنى لبل هلا) والمعنى: (أن الملك هيلى يقول أضاع أمريكان ويجب أن يعودو بسرعة وإلا سوف لن يحصل طيّب….)
قالت (واويت ): وهتوم لأمريكان من نسأيّوم؟ من أخذ الأمريكان؟؟
تقول لها (عرّيت ) ولاد جبهة إمبل مى قبئو!!!( ربّما يكون أخذوهم شباب الجبهة)
قالت(واويت ): (أمريكان ولاد كندى بعلا عشاين طعادى مى ودونا إلّوم هيّ إمبل شرناى كافلونا.. أفو نسأوم إلا لاتو سنيت إى كون)… تقول واويت(أمريكان أبناء كندى صاحب الجرابات البيضاء.. ماذا فعل بنا هؤلاء كانو كريمين معنا أعطونا الشعير…لا لا هذا عمل غير سليم…)*1
قوات الملك كانت تبحث عن أمريكان في كوخ (( يبّا هاجولى) المائل للسقوط في حي عد تكليس في الجبل الأسطورة...والذي طلب منه أهل الحي مرّة أن يتزوّج, لينجب بنينا وبناتا له ولأهل الحىّ ولأرتريا... قال : ببساطته و ببراءته المتدفّقة إنسانية ومروءة إبن بلد ( مى إقل أبلعوم) (كيف سوف أعولهم) قال له الآباء حينها لا تأكل هم في ذالك فنحن لها!!!! وإنّ (أبو الخيرات) فى الحىّ يقول لك أبشر بالخير سوف أجد لك عملا فى الفرم أو فى العصارة, والخالة( أم شيخ الجبل) سوف تطلب لك الدّعاء من إبن (المر غنى الختم) ليدعو لك بالذرّية الصالحة... قال (يبّا هاجولى) حينها عندما لم يجد مخرجا من الورطة : قال بطيبته التي تشبه مزيج من الطّيبة والغفلة لدرجة الغيبوبة :( أنا هدى لكن جانهوى كم فقرا من عد.. وفقيروما إى ريّم) قال:(سوف أتزوج ولكن عندما يرحل الإمبراطور من إرتريا.. ورحيله ليس ببعيد..) هكذا تمنّى (يبّا هـاجولى ) ولكنّه تزوّج إتماما لسنّة الحياة ونزولا عند رغبة أهل الحي,كم وجدنا (يبّا هاجولى ) فرحا مسرورا فى أيّام العيد, ونحن نجلب له (ربعيات الذّرة) واجب زكاة الفطر عندما نبعث من الآباء لنوصلها له, نجده وقد ارتدى, سروالا نظيف, وجلبابا أهداه له أحد الآباء ووضع على رأسه طاقية للعيد, وفى ذاك اليوم أي يوم العيد من أيّام السنة يلبس (يبّا هاجولى ) حذاءاه (الشدّة) إتماما لفرحة العيد عوضا عن رجلين حافيتين على مدار العام, وعندما يهديه الآباء حذاءا يقول: (كين بولو منيّ أنا لبيس إسئن قنفلى إقرى لحامم إتى) والمعنى: أنّه لا يحبذ لبس الحذاء لأنه يسبّب له ألما في إبهام رجله, وبذالك عندما يلبس (يبّا هاجولى) حذاءه الشدّة كان علامة من علامات العيد السّعيد ومباهجه في الحي, ولكن تزوّج (يبّا هاجولى ) وتقبّل الله فأله ورحل الملك,ورزق بنينا وبناتا وعند بزوغ فجر الحريّة,ذهبت مع أهل الحىّ إلى منزل (يبّا هـاجولى) فى (إيتعبّر) لتعزيته فى أحد أبناءه الذي توفى فى معركة (توقان) على الحدود السّودانية مع المجاهدين الإرتريين لأنّه كان من ضمن قوات الحكومة الإرتريّة.
هكذا كانوا (حكّام شوا) يطعنون فى الظلّ والفيل أمامهم....ناسين ومتناسيين أنّ من نازلهم كان فى أدال وتقوروبا,وطهرا,وهمبول,ودم بلاس,وطيعو, وبدّا,ودبر سلا,وديعوت, وقمهوت, وفى كلّ وادى وتلْ فى الحبيبة إرتريا, ولكنهم يرمون دائما إلى إخافة النّساء, والأطفال, وكلّ الشعب الآمن, ليصرخ ويسمع صوته لأبنائه الأبطال فى الأدغال, ليرموا السّلاح ويستسلموا ويطلبون العفو والغفران,من الملك المفدّى(جانهوى) والعربيد الأصلع صاحب الرأس الصغيرالمعروف(أسرت كـاسا) ,,, ولكن المحاولة لم تنجح, لأن الأوراق التي أمطرتنا بها طائراتهم,كان قد غطاءها روث البهائم, في جبل (قطّيتاى) وتغوط عليها القطط والكلاب في جبل (إيتعبّر) وكما كانت غذاء الغفلة لحمير وأغنام جبل ووادي(قبسى)... أما نحن الأطفال السذج حملناها إلى الآباء ولم ندرى ما بها, ولكن كوفئنا بالزّجر والتوبيخ, ونظر الآباء لتلك الأوراق ا بألوانها الزاهية المختلفة وفيها صور من يبحث عنهم( جانهوى, وأسرات) نظر إليها الآباء بازدراء وتحقير يوحى بأنّ الآباء الصّامتون المؤمنون يعرفون كلّ شئ, ويتابعون ما يجرى,من الأحداث في المدينة بين(الإمبراطور, والثوّار) حيث ينتقل صداها إلى كلّ بيت وكلّ حانوت,تنتقل من شارع الصّاغة إلى (سوق قنّافو) ومن مقهى(قهوة بيجوك) إلى مقهى (قهوة أجّاك) الأحداث وأخبارها تمشى ولها قدمان في المدينة ولكنها تعرف طريقها تتأفف من المخبرين والوصوليين والخونة, وبعد صلاة العشاء في مسجد الحي يتحدّث الآباء بحذر وبأصوات منخفضة للغاية, ولكنّنا نحسّ بفرحهم ولا نجد تفسيرا للفرح في الوقت الذي وبّخنا فيه لجلبنا (أوراق الإمبراطور) من الجبل!!!!! ولكن دائما حاسّة الطفل السّادسة, وكلمة عابرة من أحد الأعمام توضّح ما خفي, فرحتهم وغبطتهم سببها أن الثورة والثوّار أصبحوا في مرحلة تخيف الإمبراطور وتهزّ أركان عرشه لقد قبض على (جانهوى).... لقد قبض على (جانهوى).... من يده الّتى توجعه, ..... وأستكثر البعض, حتّى أن يلفّ بها حاجياته, لأنها أودع من ذالك بكثير!!!!
وأستمر إطلاق النّار!!!! قلتُ في نفسي أتيقّن أكثر وأكثر حتّى لا تكون أيضا تلك التي تطلق لقتل الكلاب الضّالة والتي يقوم بهـا رجـال (المنوشيبيو)- (البلدية) وبالذات في جبلنا (جبل إيتعبّر)...
ومن الطلقة الأولى نخرج لمتـابعة الاغتيال المنظّمة من (أبوى مبرهتو) ومجموعته (المنشيبيو) للكلاب الضّالة وأحيـانـا كثيرة.. لا تكون ضـالّة بل آمنة وأليفة ولها من يعولها, و الجبل الأسطورة, كان مرتعها ومرعاها, ومسقاها,ولكن قيل لنا عواءها فى قمّة جبل (إيتعبر) أزعج مضاجع الحرّاس(قوّة كمندوس وطور سراويت مختلطة) الّذين يأتون من( الفورتو) لحراسة المدينة, ولكن كلاب الحي الأمينة تلك ترفع أصواتها بالعواء عند قدومهم بعد صلاة المغرب إلى الحىّ والجبل, وعند مغادرتهم عند آذان الفجر , يعرفهم الكلّ في الحي من أصوات(أجهزة الاتصال) التي يحملونها والتي يصدر منها أصوات تشبه أصوات الفاكس ساعة الإرسال أو الأصوات التى تنطلق من مذياع معطّل أو فقد محطّة الإرسال,أو نعرفهم فى الحىّ وقت السّهى من (طقطقات) ما يحملون من حديد وآلات حرب على ظهورهم وجنوبهم,وأكتافهم, ولكن لمن لم يرهف السّمع, الكلاب التي تحمى الحي من الغرباء تنذر بساعة قدومهم, وتبشّر بساعة رحيلهم, قبيل آذان الفجر الأوّل أو بعده بقليل,وبعد التأكد من رحيلهم من الحي وقمّة الجبل, يتوافد الآباء على مسجد الحىّ لأداء صلاة الفجر, ولأنّنا لا نملك شيئا من أمرنا و (أبوى مبرهتو) مأمور ومـا على المأمور إلا التنفيذ نحزن فقط على كثير من كلاب آمنة فى الحى وللجيران أعدمت بلا رحمة وبلا زنب... وبعد انسحاب ال (منيشيبيو)2* من الجبل نهرع إليه بحثـا عن شهداء الكلاب الّذين سقطوا , ولكن (أبوى مبرهتو) كـان عليه أن يأتي بظروف الطّلق الفارغة إلى البلدية..لأنّه يحاسب على ما أطلق و مـا تبقى منها, ونسـاعده أحيـانـا كثيرة فى جمعهـا بأحجـامهـا الكبيرة تلك سهلة لتجدهـا فى ثنـايا وجحور ذاك الجبل الأسطورة.
وعاد يسمع إطلاق النّار بكثافة ومن أسلحة مختلفة يحْبس حينا ثمّ يعود ثانية!!!!!
وتلك بداية قصّتى للحلقة الثانية.. وحتى ألقاك عزيزي القارئ فى حلقتي الثانية قريبا إنشاء الله أتركك فى سلام وأمان....
حكـــايــات من بلادى (الحلقة الثانية )
مرانتْ
الشيخ القائد
قصّة سجون… كفاح… وإختفاء
وقصص أخرى
بقلم: عبدالفــتّــاح ودّ الخليفة
بورتن
المملكة المتّحدة
للتواصل :
من ذاك الموقع ومن فناء المعهد من الجهة الشرقية أبعدت النظر شرقا الجبال هادئة والوديان, ساكنةوجبل أوهضبة (قطيتاى) والّذىكان يتخيّل لنا ونحن صغار أن شباب الثورة سوف يدخلون كرن منتصرين ظافرين عبرذاك الجبل حاملين الرّايات الخضراء, مثل الرّايات التى حملها الآباء والأشقاء الكبار فى الأعياد والمولد النّبوى, مردّدين( أبشرو بشرى لكم يا شباب بالميرغنى…) يتقدّمهم الخليفة عثمان يزيد والخليفة حسب الله حمّدين, والخليفة آدم إمناى, والخليف عبدالله,والخليفة محمود حشفيروالخليفة صالح بئمنتْ والخليف محمد موسى محمود,والشيخ الخليفة بلال إدريس , وإبنه المادح العم بشير بلال والثلاثى أصحاب الأصوات الكروانية,(الشيخ طاهر تكروراى, والعم إدريس نور شنقب, والعم محمّد صالح جابر تاجع (أبو البتول ) ويحملها عنهم الفتية الأقوياء (ولاد درار ) وعنتر الأحياء كلّها فى أيتعبر الشّاب (عثمان حيلا) ولكن راية النّصر الّتى إنتظرناها وحلمنا بها ورسمناها فى دفاتر المدرسة والمعهد وفى أشجار الحى,وطرّزنها صبيّات الأحياء فى المناديل, مكتوبعليها (جبهة تحرير إرتريا)
وكنّا نعتقد ونتخيّل بسزاجة طفولية, أن شباب الثورة سوف يتقدّمهم أبناء المدينة (محموداى,قريش,شكينى,عبدو عثمان (بانداى) وأخيه طاهر,ومحمّد شيخ زايد,وسعيد صالح, وحمّداى, آدم شكّر, على حنطى, عبدالله علاج, حسن سعيد باشميل,محمّد شوكاى,عثمان مايبتوت, ولكن جبل (قطّيتاى) فى ذاك اليوم كان هادئا,إلا ممّا ندر من الحيوانات الأليفة,وبعضا من عابرىّ السبيل,وبعض الدفنة فى مقابر المسيحيين.
ولم تخطئ عينىّ الطريق المسفلت الآتى من أسمرا, مع إنحنــاءته وتعرّجـاته, ونتوآته يشبه فرشـا عجميّابسط ليكون معلمــا من معــالم المدينة قبيل ضـاحية(حشلا بلين) ,وكلّ مــا إبتعد ترى عينيك خيطـا أسودا ملقىعلى الأرض بلا حراك, ولكن فى ذالكم اليوم
لم تكن به الحركة المألوفة والمعتادة, للسيّارات والنّاقلات المعهودة بحركتها من وإلى كرن.
ولأن لمعهد والجــامع فى منطقة وسط من المدينةهذا جعل الحى والمعهد منطقة عبور من غرب المدينة إلىشرقها,والعكس,بالذات لمن يعمل فى (فرش أكل) أو سوق ساحل) أو(سوق أشّام) أو الصيّاغين,أو لأصحابالحوانيت فى(شارع قنّافو)(شارع قناة السويس سابقا)….. ولمن أراد أيضا إختصار الوقت,وتجنّب المغتصبينوالغرباءوكلاب الملك وجرزان المخابرات,المنتشرة فى المقاهى, والشارع العام المسفلت, ومحطّة (أجيبللبترول) فطريق الجامع هذا , طريقا آمنا ومطمئنا, لا ترى فيه إلا العقود الفريدة من أبناء المدينة وبناتها, أوشيوخها وأتقيّاءها قاصدين المسجد الكبيرللرّكوع والسّجود, ليرفع الله خالق الكون بلاء الإستعمار الّذى جسمعلى صدر البلاد والعباد,وسرق السّكينة والطمأنينة من ربوع الوطن ,هذا المعهد القلعة الملتصق بالمسجد,الكبير فى المدينة وبقربه منزل العلامة الشيخ(قاضى موسى عمران)… كان مصدرا لبعث الطمأنينة, واليقينوالثقة بالنفس.
وقفت أسترق السّمع….. أتأمل الرائحين والغـادين,فى شوارع (عد عقب) و السجن الكبير,الكل يواصلمشواره,والحيـاة مواصلة كعادتها!!! وكأنهم لا يسمعون مــا أسمع,لا حركة شرطة, ولا كمندوس,ولا طورسراويت,أشتدّ إطلاق النّـار وأزير المدافع,وصداه أصبح واضحــا وكأنّ المعركة فى مكــان قريب من المدينة,عيونى التى أصبحت أكبر حجما وأذّنىّ إنفردتا كالرادار بحثا عن هدف ولكن بلا جدوى, لا أسمع إلا أصوات(الطواحين) وضربا للنّار متقطّعا والضرب على الحديد فى سوق الحدّادين فى الطرف الشمالى من المدينة, أحياناتحسّ وكأن (الحدادون) متوكّلون على الله لا يعيرون شيئا إهتماما أكثر ممّا ينبغى, لأنّهم رأو الكثير من حوادثإطلاق النّار, أطلقت بالقرب منهم, وكم من فدائى عبرهم,بعد أن أكمل ونفّذ عملية فدائية,وحينها يقف الكل منالعمل ليحيّى بقلبه ذاك الأسد دون أن ينطق بكلمة وكم من خائن ومدسوس ذبح( بخنجر أو شوتال) من صنعأيديهم.. إنّهم متعوّدون على الأحداث… مقتنعون بالنصر مستسلمون لقدر الخالق.
زاد أزير المدافع وزاد السكون فى المدينة,هممت فى تلك اللحظة أن أهرول إلى أهمّ موقع فى المدينة لصنع
الحدث وهو شارع الصّاغة,مع أنّهم لا يسمحون لنا بالجلوس بجوارهم, أثناء المحادثات المهمّة أياها,ولكن
فقط للتنصّت, إن سقطت من أحدهم جملة عابرة, تفسّر ما يحدث,وما سوف يحدث, وتمنّيت أن أكونبالقرب من العم (إدريس كروش) الّذى يتحدّث وهو ينفخ على حبّات الذهب ومنظاره متدلى على أنفه منعينيه, ينطق بكلمات لا يفهمها الغريب, ولكنّها مفهومة لمحادثه,وتمنيت لو أكون بالقرب من الشّاب الفنجرى(أحمدانى الصّائغ) والملم باخبار المدينة خيرها وشرّها أو العم (حجّى صايغ أبو حسن ) لما يتجمّع فى حانوتصياغته الكثير من أبناء وبنات الرّيف حاملين الأخبار,أو شيخ الصيّاعين (الخليفة بكرى صايغ) أو الخليفة(عامر شنقب) أو العم الصّائغ (سليمان محمّد نور) والّذى يؤانسه على مدار اليوم أقوام من (ملبسو,ورهىّ عباى,وحتىّ عدردى) حاملين السّار والضّار من الأخبار, وكثير من منافع للصّاغة والتجّار,ولو سمح العمصاحب الصوت الجهور(أحمد تيدروس) الجلوس معه لحظات من عمر الزّمن لإنكشف المستور,حتّى وإن أخفضصوته فى ساعة الحديث فى السياسة, ويتحدث بجمل , تحتاج إلى توضيح وتفسير مثل الشعر الجاهلىوالمعلّقات السّبعة أو كأن حديثه
متنُ فى أصول الفقه يحتاج إلى تفسير, و يترك أحيانا مقرّ عمله بخطواته السريعة, ومشيته الأميرية مهرولانحو صديق عمره العم (حدوق عمر فرى) والد (حجى ريفا) ليتبادل معه المعلومات وآخر الأخبار,تمنيت أنأكون هناك ولكن الخوف من العقاب,والرّهبة التى كانت تصيبنا من شيوخنا الأجلاء عدلت عن الفكرة,وقرّرتالعودة إلى فصلى وأتوكل على الله وأنتظر الأقدار وما سُطّر فى اللوح المحفوظ من حاكم الأرض والسماء معبقيّة أقرانى والمعلمين وكلّ أسرة المعهد العتيق .
وفى طريق عودتى إلى فصلى من الباب الرّئيسى للمعهد والمفتوح دائما حتّى نهاية اليوم الدراسىّ لمحت العلامةالشيخ (قاضى موسى آدم عمران) بالبالطو الأصفر مائلا للبياض, وطربوشه الأحمر تحت العمامة, يشبه شيوخالأزهر, متكئا على عصاه, قاصدا المعهد, ربّما يريد أن يطمأنّ على المعلّمين والطلبة, وكلّ المعهد, لأن المعهدصرحُ بناه الشيخ برجاحت عقله ونظرته الثاقبة, مع كثيرين من إخوته أصحاب الهمم العالية.
فبعد إنفضاض البرلمان 1962والّذى كان الشيخ عضوا بارزا فيه لدورتين, و فشلت المعركة ,معالإمبراطور ونظام الحكم الأمحراوى, من داخله, إختار الشيخ أرضا أخرى لمعركته المستمرّة, وهىمعركة(الحفاظ على الهويّة الإرترية)….. وما المعهد الدينى الإسلامى إلا إحدى باكورات العمل الوطنى للحفاظ على الهويّة, والشيخ عمران أحد فرسانها وأبطالها فى التخطيط والتنفيذ,فالمعهد والمسجد كانا شعلة منالنّشاط,والمعهد كان هو المعبد, الّذى ترتّل فيه أسماء الله وكتبه, ودستور الوطن والوطنية,ومصنعا للهويّة وحبّ الوطن ,ومركزا لإشاعة الإعتزاز والقيم الفاضلة المنطلقة من تعاليم الإسلام الحنيف, ,والشيخ (عمران) أحد أهمّ الشخصيات الّتى وضعت المعالم فى الطّريق بمعيّة إخوته وأبناءه المعلمين الأفاضل(القاضى أبوبكر عبدالله والقاضى محمّد إدريساى, والقاضى محمّد إدريس عثمان, والشيخ الحاج حامد حمّد دار, والجيل الثانى من المعلمين الأكارم الأستاذ رمضان بادماى, والأستاذ إدريس آدم,والأستاذ يسين (عباى عنتو), والمربّى الجليل القاضى محمّد مرانت….,وعند الهجمة الأمحراوية على البلاد وبدأ سياسة التحبيش بفرض لغة الملوك(الأمحرا) فى المدارس والمعاملات هبّ الأتقياء والأوفياء من أصحاب الهمّة وحماة الهويّة,لرفع راية المعارضة للشعار الّذى صنّ الآذان:
(التحبيش أو التهميش) هبّو وحال كونهم يقول :
( لا تحبيش ولا تهميش… بل ثورة من كرن حتّى (بر قشيش)
ومن قرورة إلى وادى حديش
ليرحل الملك وصهره التّعيس
لنا وطن لنا لغة لنا هويّة
إرحلو وحلّو عنّا وأتركو الرّعية
لا نريد الحبشة أمّا ولا الملك أبا والأمحرية
لا نبدل وطنا لا ملّة ولا دينا
لنا وطن لنا لغة لنا هويّة
لنا العربية لنا التقرنية
إرحلو وحلّو عنّا وأتركو الرّعية
..كان المعهد الدينى الإسلامى (معهد جامع) مهد التقاة, ومنارة للعلم, وحامى حمى الهوّية الوطنية,لجأ إليه الكثير من أبناء المدينة, رافضين غير ظاعنين لغاية التحبيش,وعلى إثر الحملة الّتى أوقدها(شيوخ المدينة وعلى رأسهم القاضى عمران, والقاضى أبوبكر عبدالله وخلفاء الطّريقة الختميّة, فى حملة الدّفاع و الحفاظ على الهوّية,عجّ المعهد العتيق بطلاب العلم وإمتلأ, من المدينة وضواحى المدينة وحتىّ القرى النائية, فصولاصباحية للنشأ الصّغار وأخرى مسائية, وحلقات للدروس فى علم تفسير القرآن, وأخرى للتوحيد والحديث للكبار والآباء, فترى المعلّم والموظّف وصاحب الحانوت يأتون إلى المسجد والمعهد قبيل صلاة المغرب متأبطين كتاب (تفسير الجلالين) أو (رسالة إبن مالك) لحضور حلقات تفسير القرآن, أو حلقات الفقه الّتى يديرها الشيوخ الأفذاذ حتّى صلاة العشاء, تحت إشراف وجهد, وتدريس الشّيخ (عمران), ومساعدة الشيوخ الأجلاّء( الشيخمحمّد إدريساى, والشيخ محمّد إدريس عثمان, والشيخ أبوبكر عبدالله).
فمن لبّى نداء الحفاظ على الهوية جلب ذريّته إلى الحصن الحصين (المعهد),, وتردّد من تردّد خوفا من فقد علوم الدنيا, وخوف التهميش, وتمّ الإنسحاب المقصود من المدارس الحكوميّة,والكاثوليكية, والبروتستانتية, والتى كانت منتشرة فى المدينة,ودارالنّقاش فى كلّ بيت ومسجد حول مصير الأطفال جيل المستقبل, بعد إقصاء اللغة العربية وإحلال (الأمحرنية) مكانها وعاد البعض إلى المدارس بعد فترة تردّد, والبعض الآخر آثر أن يواصل الدراسة فى المعهد والمدارس الحكومية معا.
تلك الوقفة للدفاع عن الهوية ظهرت نتائجها سريعة وبدون بطأ..إذ أصبح كثيرون ممّن لم يجد نصيبا من تعلم اللغة العربية فى المعاهد الدينية والإسلامية…أحباش الهوى والهويّة وظهر إختلاف المزاج اللغوى فى البيت الواحد… ولا زلنا نعانى من آثاره حتّى اليوم… إذ يعبّر بعضنا فى المحافل بالتقرنية وإن أبت يرقّعها بالإنجليزية وبعضا من مفردات الإيطالية, والبعض يدخل الكثير من مفردات التقرنية عند الحديث بالتقرايت, امّا طلاب المعهد يفصحون عن كلّ شاردة وواردة حديثا وكتابة باللّغة العربية, لغة القرآن وإحدى اللّغتين الرّسميتين وإحدى أعمدة الثوابت الوطنية المجروحة فى إرتريا اليوم…. هذا الإختلاف والخلاف فى مصائر النّشأ الصّغار والأسلوب الأنجح والأنجع فى منهجية تعليمهم, كان حقّا خلافا مصيريا وحقيقيا ومبرّرا, وأصطحب معه تغييرا فى العقلية وطريقة التفكير… ولمست منها جزءا غير يسير فى أيّام الدراسة فى المعهد وبعده, ولكنّى أرجئها للحلقة القادمة لإرتباطها بقصص الحديث مع شيخى (محمد مرانت).و لكن فى نهاية المطاف نجحت الإرادة الوطنية المخلصة,فالإجلال والإكبار لشيوخنا الإجلاء, حماة الوطن والهوية.
عدت إلى فصلى….. و سألنى المعلّم الجليل الشيخ محمّد إدريساى: أين كنت كلّ هذا الزمن؟ قلت أحسّ بوعكةفى بطنى سيّدنا!!
عرف المعلم وهو يحسّ دائما بنا ويفهمنا قبل أن ننطق, وأحيانا ينزع الكلمات منّا نزعا إذا تلعثمنا فى قولالحقيقة,وحصل ذالك فى يوم أحد من أيام عام 1970 وكانت هناك مبارة لكرة القدم فى (جوكو- كرن) بين منتخب (مدينة كرن) وعملاق كرة قدم أسمرا( فريق حماسين) وكانت الكرة القدم نهارا جهارا محروسةبالشرطة والعسكر… لم نستطع نحن طلاب المعهد من تفويت فرصة مشاهدة المباراة بين عملاقين من عمالقةكرة القدم فى إرتريا وتغيبنا عن المعهد, والبعض قاوم الرّغبة فى نفسه خوفا من الشيوخ وعلى رأسهم المربّىالجليل( محمّد إدريساى) وفى صبيحة اليوم التالى أخرجنا الشيخ نحن الغائبين بالأمس أمام الفصل! وسألناسؤال محدّد أين كنتم بالأمس؟ والكل ردّ على حسب الإتفاق كنّا مريضين سيّدنا!! لم يصدّق الشيخ وقال: كنتمتشاهدون كرة القدم وتركتم واجبكم فى التحصيل والعلم!! وبذالك قرّر معاقبتنا بالضرب, ولكن فى الوجه و هىالّتى إختلفنا فيها مع شيخى ورفضنا العقاب؟ وخيّرنا شيخى بين أمرين العقاب وإما الخروج من المعهد مطرودين!! جمعنا كتبنا وخرجنا من المعهد متحسّرين, ولكن سوّى الأمر لاحقا وعدنا بعد طلب العفو من الشيخ.
أوشكت أن أقول لشيخى: هناك حرب!!!! فى بطنى وخارجهاوحول المدينة, يا سيّدنا!!!
وأنّنى لا أستطيع التركيز فى الدروس, وكثيرين غيرى فى الفصل بسبب المعركة الّتى تدور رحاها بالقرب من المدينة سيّدنا,هـناك موتا قادما من الجنوب ,لا من الشّمال, ولا من الغرب,فذاك عهدُ ولّى ودفن مع درويش المهدية (محمّد ود فضل) فى (فورتو) (أغردات) و فى عهد العلييّن (على نورين) و (على بنطاز) وأخيرا إستأصل شأفة الخطر أبو الثوّار وحامى الحمى من خطر الأركان الأربعة (عواتى ود فايدوم)!!!!!
ولكن خوفى من معلّمى القوىّ الشكيمة,والّذى يمنعنا من الحديث فى المعهد الدينى عن أىّ شيئ خارج العلموالحديث,و السيرة النبوّية, والفقه والقرآن, حتى الرياضة والرّياضيات لم تكن لتستهويه ولم تكن من أولوياته,ناهيك عن شئ يتعلّق بمعركة وحرب وقضايا أمنية أخرى تجرّ الفصل إلى حديث فى السياسة, ربّما كان يرى أنّنالسنا أهلا لذالك بعد, مع أنّ كثير مّمن علّمهم النحو والفقه والتوحيد أصبحو قادة فى الثورة الإرترية يذكر منهمالمناضل/ محمّد سعيد باره( عضوا بارزا فى الجبهة الشعبية توفّاه الله) و المناضل الشهيد عضو أركان جيشالتحرير الإرترىوشهيد معركة بارنتو عام 1978 (إدريس رمضان) وكثيرين غيرهم.
الشيخ العالم محمّد إدريساى لا أنسى طريقته فى الشرح ومجهوده الكبير فى تقريب المعنى فى السيرة, والفقه,والتوحيد, والبحث عن المعانى الأقرب بلغة( التقرايت) ولا سيّما وجود كثير من الشباب من منطقة (قلب) و(محلاب) كان مساعدا لذالك,وكان الشيخ يستلطفهم ويحبّهم ويحاورهم ويجادلهم فى أمور كثيرة تتعلّق بالعقيدةوالتوحيد…. أذكر أحدهم وإسمه ( محمّد عثمان قبر ربّى) سأل الشيخ سؤالا لم يخطر على بال أحدنا وهو مامعنى النّحْو؟
فردّ الشيخ: النحو فى اللغة تعنى إتّجاه كما تقول( ذهبتُ نحو عد حبابِ) يا ود قبر ربّى… امّا النحو إصطلاحاهو قواعد اللغة العربية… هذه الجملة رسخت فى الأذهان عقودا نذكرها ونذكر بها الشيخ الجليل وطرائفهبإستمرار,وعثمان قبر ربى هذا كان ظريفا ولطيفا, وملهما للفصل وللشيخ بطرائفه وتعليقاته البريئة دائما والتىترد على شكل سؤال أو إجابة!!!!
كنت أتعاون مع (عثمان قبر ربّى) دائما فى تغليف كرّاساته وكتبه لحمايتها من التلف بحكم أنى كنت أيضا طالبمدرسة حكومية فى المساء,والتى علمونا فيها التغليف وتحصين الكتاب والكرّاسات من التلف, وعندما كتبت لهإسمه بخطّ عريض على الكراسة أخذ الكرّاسة وكتب تحت إسم جدّه (رضى الله عنه)!!!!!
ولم يفعل ذالك بفهم أو بقصد مسبق , إنها فقط بساطة الرّيف وأهله الطّيبين وما أكثرهم فى المعهد,ولأنّىأهوى النقاش الّذى يدور بينهم وبين شيخى الجليل (محمّد إدريساى) طرحت الكرّاسة عن قصد أمام منضضةشيخى الّذى ضحك كثيرا وهو يدندن بقصيدة (عبدالرّحيم البرعى فى حبّ الرّسول (ص) وكانت تلك عادة عند شيخى والأستاذ الوطنى العالم المادح (رمضان بادماى) ليعطيا نفسيهما وقتا للتفكير:
يردّدها شيخى(إدريساى) فى شكل همهمة دون أن يفتح فمه ويتخيّل لك أن الصوت قادم من مكان بعيد وليس مصدره الشيخ الّذى هو معنا فى الفصل….
(صلّو عليه وسلّمو تسليما…صلّو عليه وسلّمو تسليما
يا راحلين إلى منى بغيابى… هيّجتمو يوم الرّحيل فؤادى…
سرتم وسار دليلكم يا وحشتى… الشوق أقلقنى وصوت الحادى
ونادى على عثمان وهو لا زال يدندن والحديث بالتقرايت…
الشيخ إنت عثمان ود قبر ربّى هليكا).. يا عثمان ود قبر ربى هل أنت موجود؟
عثمان آمبى سيّدنا هليكو هلا ربّى ) نعم سيّدنا أنا موجود باقِ والبقاء لله!
الشيخ إيكون إبى!! أبوك هتو رسول على ما نبى؟) هل كان أبوك رسولا أم نبيا؟
عثمان إيفالو نبى إي على ورسول) لا لم يكن نبيا ولا رسولا!
الشيخ وأبعبكا هيى) وجدّك؟
عثمان إيفالو نبى إيعلا ورسول) أيضا لا لم يكن نبيا ولا رسولا!
الشيخ: ( كئلا رضيى الله عنه إتمى وسّكاها إتا سميت أبّعبكا) إذن لأى سبب أضفت كلمة رضى الله عنه إلىإسم جدّك؟
عثمان: (إلى كلو هيقا لرضى الله عنه أبزحكوما ديبو أبعبى قبر ربّى ) كل هذا الحديث! لأنكم إستكثرتم كلمةرضى الله عنه على جدى (قبر ربّى)!!!
الشيخ: (بدير أبعبوتاتكا بيلو إقل قمل.. أكل إلى لتقلل إتكاما منكورتا) قديما قال أجدادك للجمل عند لم يتوفّقو فىالتعامل معه هكذا كبير الحجم وأبله!!
شرح الشيخ الإستعمال الشرعى لتلك الكلمة وضحك الكل فى الفصل وغضب عثمان منّى… ولكن صفت الأموروذهب الكدر بيننا من حيث أتى لأن فى ذاك الزمن صفاء القلوب وبراءة الطفولة لم تترك مجالا للضغائن!!!!
ولكن لأنى لا أستطيع الكتمان قلت لشيخى بنبرة خائفة (سيّدنا برا زبط هلا إتّجاه قطّيتاى وقبى أسمرا منبرّا سنّى لسمّع) هناك معركة وضرب رصاص فى إتجاه (جبل قطّيتاى وطريق أسمرا لو خرجت فى فناء المعهدتسمعها واضحة!!!!
وكما توقعت كان ردّ الشيخ: (إنتا طيّب إقلو تأتناسى علكا)!!!!! يقصد إذن أنت تأخرت لأنّك كنت تتنصّت لضرب الرّصاص فى الخارج!!!!وواصل الشيخ فى الدرس ولم يزد فى الكلام.. وليس الشيخ محمّد إدريساى فقط بل كلّ الشيوخ كانو ثابتين أقوياء كلّ الأحداث يتعاملون معها بالإيمان والثبات, أى حدث عـابر أو قوىّ حصلفى المدينة لا يهزّ منهم شعرة.. وكلّ الشواهد تقول أن المدينة كـانت تستمدّ من ثبـاتهم وشجـاعتهم القوّةوالعزيمة والإستمرارية فى الحيـاة والإيمـان بالواحد القهـّار الّذى يمْهل ولا يهمل.
إنتهت حصّة علم التوحيد للشيخ المرحوم ( حاج حامد حمّد دار) تلتها حصّة (علم الأخلاق) من كتاب أذكر إسمه(تيسير الخلاّق فى علم الأخلاق) للأستاذ الصّابر العالم ورفيق (القاضى مرانت) منذ الصبا الباكر, ورفيق سجنه الثّانى ومدير المعهد الحالى(إدريس آدم) أدعو له الرّب القدير أن يمتّعه بالصحّة والعافية.
ثم تلتها حصّة السيرة النّبوية من مختصر سيرة الرسول لإبن هشـام وصـاحبهــا الأستـاذ المربى الثّـابتالقنوع عنوان الوطنية والشجـاعة وملهم الصّـابرين والمناضلين قلعة النّضـال ومرفأ الوطنية ومعلّم الأطفـالوالأجيـال فى المدينة أبو (النضـال) شيخى ومعلّمى: محمّد مرانت منصور إبن عنسبـا ورجل وازنتت الغييور..
وليسمح لى القارئ الكريم… أن ألتقيه فى الحلقة المقبلة بإذن الواحد الأحد.
توضيح :
1- كانت فى بداية الستينيات تأتى إلى إرتريا مساعدات أمريكية توزّعها الحكومة الإثيوبية على الشعب الإرترىوهى عبارة عن جرابات بيضاء جميلة مرسوم عليها (تمثال الحرّيه) فى إطار العلم الأمريكى بنجومه تحوى الدقيق الأبيض ,وذالك لأغراء الشّعب الإرترى ليترك الثورة وليسجد ويركع لملك الملوك(هيلى).. ولا أدرى من أين جاء الإعتقاد بأن تلك الجرابات كان يرسلها رئيس أمريكا (كندى)... وعندما قتل (كندى).. أصبحت الجرابات وكندى مقولة لأهل كرن.. حين يريدون أن يقولون( أنّ الشئ المضى وفات لا يعاد ) فيقولون بالتقرايت( إيتركبا كندى... بعلّ عشاين طعادى) والمعنى:(أن كندى صاحب الجرابات البيضاء قد مضى وسوف لن يعود)
2- المنيشيبيو(كلمة إيطالية) تعنى (البلدية) وإعتاد النّاس على إطلاق نفس الإسم على رجال البلدية بالزىّ الرّسمى.
مرانــتْ : الــشـّيـخ الـقـائد
الحلقة الثالثة
و سنة أولى سجن (1)
بقلم: عبدالفــتّــاح ودّ الخليفة
بورتن
المملكة المتّحدة
khulafa20@yahoo.com للتواصل:
قبل البدء أودّ أن أستسمح القارئ الكريم فى أن أترحّم على روح شهيد الوطن المناضل (عبدالله إدريس محمّد) أحد أهمّ صنّاع الثّورة و التأريخ, وأحد رموز الوطن, الوطن الّذى لم يكافئه وفاءا بوفاء.. اللّهم أرحمه وأسكنه فى فردوسك الأعلى… (آمين)……
ذكرت فى الحلقة السّابقة أن الشيخ القاضى (محمّد مرانت) أصبح هو معلّمى لمادة سيرة رسول الله العطرة.. فدخل علينا الفصل, وإستقبله فى الباب (أخيه )الشيخ الأستاذ الهادئ فصيح اللّسان نقىّ السرّ والسّريرة,الكتوم الخجول والمدير الحالى للمعهد الأستاذ (إدريس آدم) أطال الله فى عمره ووهبه لنا الصّحة وموفور العافية, قدّمه للفصل قائلا هل تعرفو أستاذكم لمادة السّيرة النبوية قلنا : لا… قال إذن هذا أستاذ المادة وإسمه الأستاذ (محمّد مرانت)….
خرج الأستاذ الشيخ إدريس آدم وترك لنا فى الفصل الأستاذ الشّاب (محمّد مرانت)شابا وسيما ,يلبس جلبابا وعلى راسه طاقيّة, يلتحف عمامة لفّها بإسترسال حول عنقه,لم يكن له شاربا كثيفا, ولم يكتظّ ذقنه شعْرا,يشبه وكأنه جاوز العقد الثّانى من عمره بقليل,به عاهة فى رجله اليمنى تشبه وكأنها فطرت معه منذ ميلاده,يتحدّث العربية بلا تلعثم, تخرج الكلمات هادئة صابرة, من ثنايا ثقره الأبيض النّاصع, من لهجته فى التقرى تعرف موطنه عنسبا إن كان لك نصيب فى لغة التقرايت !!!!!
بدأ الشيخ الشّاب بـ (بسم الله الرّحمن الرّحيم) وصلّى وسلّم على الرّسول الحبيب قال: كلّ العام سوف يكون مقرّرنا سيرة رسول الله من كتاب (مختصر سيرة الرّسول- لإبن هشام) وسأل المعلّم: إن كان الكل يملك الكتاب المقرّر؟
عدد أقرب إلى النّصف ردّ بـ لا!! قال الأستاذ الشيخ: ألم يبلغوكم فى المقابلة بالكتب المقرّرة؟
قلنا نعم شيخى قد بلّغونا فى المقابلة!! ولكنّنا لم نجد الكتاب!! !!( سوف أتطرّق للمقابلة هذه فى الحلقات المقبلة) والسّبب قد تعرفه أكثر منّا !!! قال : نعم… نعم… شحّ الكتب الدينية, كان فى ذاك الزّمان شحّا وحصارا على الكتب إياها من (الملك) والإقبال الأكبر على المعهد من طلاب المدارس, ومن غير طلاب المدارس,زاد الأزمة, وذالك من أثر الحملة القويّة الّتى أطلقها الشيوخ و الكثير من أصحاب الهمّم, ولأنّى كنت فى الصّف الأمامى لحبّى فى أن أرى المعلم وهو يلقى الدرس قلت له: شيخى بحثت فى كلّ مكان وسئمت وإستسلمت ؟ قلت: لم أجده فى حانوت الشيخ (الحاج حامد) ولم أجد من طلاب السنة الفائتة من أبتاع منه الكتاب!! قلت له: شيخى إنّ والدى قد أوصى لى أحد الأعمام ممّن يعملون بـ ( البرشوت) بين إرتريا والسودان ليجلب لى كتاب السّيرة, وكتاب الفقه للشيخ (العشماوى) …. ولكن حظّى النّادب رجع العم المعنى بعد فترة شهر تقريبا بكتاب (عنوانه كيف تعلّم طفلك الوضوء والصلاة)… مثله مثل غالبية عمّال (البرشوت) لم يوفّق فى أن يعرف الكتب ولا أن يتاجر فيها.
قال: نعرف ذالك وندرك شحّ الكتب الإسلامية والمطلوبة فى المعهد, ولكن إجتهدو حتى تجدوها لأن الدروس أنفع وأجدى مع وجود الكتب!!
مسألة الكتب هذه أكبر مشكلة تواجه الطّلبة فى المعهد, يشترى طلاب العلم كتب رفقاءهم من السنين التى مضت والبعض يحجزه قبل أن تأتى السّنة ممّن يعرفهم من الطلاب فى المعهد لا أحد يحتفظ بالكتب, مراعاة للمصلحة العامة, والمعلّمون الأجلاء يشجعون كلّ من أكمل الكتاب المقرّر أن يبيعه, لحل الأزمة , فقد تجد كتابا عمره خمسة سنين أو سبعة أو عشرة, إنت وحظّك وربمّا يكون أول طالب إقتناه يكون فى تلك الحظات فى مدارس السودان, أو فى جامعات بغداد أو الأزهر الشريف,كلّ الكتب القديمة تحكى عن سجلّ طلاب العلم فى ذاك المعهد العتيق, لأنهم يكتبون أسماءهم فى غلافه, فعندما تشترى كتابا قديما قد تجد فيه عددا من الأسماء جزء منها ممسوح وجزء مشطوب, وإسم آخر غير مكتمل… وقد تجد الكتاب غلّف مرّتين, وغلاف فى رأس غلاف وهكذا كلّ كتاب يحكى عن تأريخ…. ولكنّنا عندما لم نجد الكتاب المقرّر والمعيّن فى الحوانيت,يتوسّط الآباء للبحث عن الكتاب إياه من أصدقاءهم الّذين إقتنو الكتب الإسلامية بسبب تلقيهم بعضا من علوم الفقه, والتوحيد, والنّحو, والسّيرة النّبوية العطرة, ولكن عندما نعجز فى العثور عن الكتاب… نبلغ الشيخ وهذا ما فعلته مع شيخى( محمّد مرانت) فطلب منّى أن أنقل المواد من الكتاب مستعيرا ممّن يملكه للحصّة المقبلة وسوف تكون عن مولد الرّسول ونشأته (ص)…
وبعد أن بدأ حصّته بزمن قليل قلت له: شيخى كان هناك ضرب رصاص وأزير مدافع فى إتّجاه جبل (قطيتاى وطريق أسمرا) قبل الإستراحة هل سمعته؟
وبطريقة تختلف عن طريقة شيخى ومعلمى (إدريساى) ردّ مسرعا وبهدوء الواثق والعارف قائلا: إرتريا كلّها فى معركة!!! وأضاف لا تهتمّو بشيئ, إنّ الله قادر على كلّ شيئ وهو سوف يدرأ عنّا الأخطار!!
سأل الطالب (إبراهيم) : شيخى هل تقصد أن هناك حرابة اليوم وفى مكان آخر من إرتريا غير الّذى نسمعه؟
قال الشيخ الشّاب: ما قصدته إن إرتريا فى حالة حرب مستمرّة, حرب بين حقّ وباطل والحقّ دائما منتصر بإذن الله!!!
سأله الطّالب (إبراهيم)قائلا: شيخى هناك قرى تدمّر وأخرى تحرق وأطفال ونساء وشيوخ يقتلون لا أدرى ماذا جنو؟ لا شيئ يُعمل تجاه ذالك؟ الكلّ نظر إلى إبراهيم هذا بإسغراب وسؤال فحواه من أنت يا إبراهيم وماذا فى جعبتك!!!!( إبراهيم هذا.. يعرف آل مرانت وهو من نفس منطقة عنسبا كان فى سنّ الفهم والرّجولة.. تعرّف على الشيخ منذ لحظة قدومه… رحلت أسرته من ضفاف نهر عنسبا إلى ضفاف نهر القاش بحثا عن موارد أفضل للمعيشة وفى الرّحلة ما بين النّهرين, بين (تكمبيا) و(أوقارو) و قرية 13 على ضفاف القاش شاهد الكثير وتعلّم أكثر وسمع عن الجرم والظلّم الّذى وقع على (عد أبرهيم) ومن ثمّ إنتقل لدراسة الإبتدائية فى السّودان, ولكن الهيام والحنين إلى رائحة جوافة وبرتقال البساتين فى (عنسبا) ولعبة (شكرّوك) مع أقرانه فى قرى الصّمود(تاجبا) و(كميل) و (منداد) على ضفاف نهر الأبطال (عنسبا) أعادته بمفرده تاركا الأسرة ليعيش مع أقاربه.. لم أرى له مثيلا فى حبّ الأرض والطّين الّذى تمرمغ فيه وهو طفلا.. جاء للمعهد جاهزا معبئا ثائرا, مشحونا حتّى الإنفجار بحبّ الوطن ومعه العمم السّكروته من أسواق (أم درمان) والجلابيب البيضاء بلا رقبة, يتابع الدّروس بإهتمام وبتهوّره المرغوب يقحم الفصل يوميّا وفى كلّ حصّة فى شأن السّياسة, وعند ما تحلّ علينا إجازة المعهد يركن الكتب والجلاليب الجميلة وعممه وشالاته النظيفة, ليأتينا حاملا الكثير من خيرات بساتين (عنسبا) فى حماره يبيع ويشترى فى سوق الخضار بملابس إبن بلد, يحكى مع الكل,مستعملا عدّة لغات ممّا تيسّر فى الإقليم والمدينة كان نموزجا لكثير من طلاّب العلم فى المعهد ولكنّه كان قد جاوز عمره بتفكيره, والفترة الّتى قضاها فى السّودان من عمر الطّفولة والصّبا وإن كانت قليلة , كان لها فعل السّحر فى تكوين وعيه,ومحطّة رئيسية فى مشوار حبّ الوطن, رآى وسمع الكثير وناقش بحرّية مع من رآى من الثّوار وجاءنا هكذا ثوريّا ناضجا عارفا بكلّ ما جرى وما يجرى.. ولكنّه كان متسرّعا ومتهوّرا بعض الشيئ) …قال له الشّيخ: بعد أن نظر إليه مليّا… يا (إبراهيم): دعنى أقول لكم إن الحرب فى إرتريا هى حرب بين حق وباطل.. والحق هو المنتصر دائما وأبدا طال الزّمن أو قصر…. والآن دعونا نعود إلى حصّتنا وأنتم ما عليكم بشئ فقط إجتهدو وواظبو على دروسكم, وأتركو الباقى للبارئ , هكذا قالها وبإسلوبه الفريد الجميل الجذّاب, والحق سوف ينتصر!!!
الحق بإذن الله دائما منتصر!!!
هذا المسجد والمعهد العتيق…بلا تعليق
قلت فى نفسى كيف يتجرّأ هذا الشيخ الشّاب ويقول كلّ هذا!!! يتحدّث بنغمة تختلف عن الشّيوخ الآخرين, لأنّ كبار الشّيوخ يتّسمون بالحظر والتروى, لأنهم إكتوّو بنار الفتنة, وعانو الأمرّين من الملك وأعوانه فى مرحلة صعبة سقاهم فيها الجنرال الأجوف(تدلا عقبيت) وعصابته الحنظل والمر , ليس فقط لأنّهم شيوخ معهد ولكن لأنّهم قوّاد وروّاد وشباب الحركة الوطنية,كانو حظرين فى تناول شئوون السياسة, ولكن شيخى (محمّد مرانت) كان فيه عنفوان الشباب يشوبه الحظر,وشجاعة كان يجب أن تُظْهر فعلها فى ساعة وجوبه لأنّه شابُّ لا يستطيع ولا يتقن لعبة دفن الرؤوس فى الرّمال, ولذالك كان كلّ ما كان!!! وما حصل من الشيخ وللشيخ مرانت!!! ودفع ثمن جرأته وشجاعته وحبّه لتراب أرضه.
كان حديثه من الفم إلى القلب, أحسّ الطلاب وكأنهم يحادثون أخ أكبر يفاتحهم فى كلّ شيئ,بسهولة وبلا حواجز, ولكن بحزم, الحديث معه شيّق فى الدّين والدنيا,وفى مواد الدراسة لا يهاب شيئا,شكله الخارجى يوحى برقّة, ولكنه قوّى الشّكيمة, لا يهاب أحدا إلا الله ,حديثه عن العقيدة والوطن والهويّة,يوحى لك وكأنّه يريد أن يجعل منّا الأطفال فى ليلة وضحاها جنودا للوطن,والقضية, ولأنه من الجيل الّذى عايش رعونة الأمحرا والخونة,فى نبرة حديثه المغلّف بالوطنية دائما, تحسّ برغبة فى الإنتقام, وردّ الشرف.
إنقضت حصّة السيرة النّبوية وإنفضّ الجمع, هرعت للسّوق والكل فى حـالة ترقب قصدت ومعى رفـاق فصلى( قهوة (بيجوك) وجعلنـا نسترقّ السمع لمعرفة أخبـار ضرب الرّصاص من الصباح الباكر والذى لم ينقطع حتّى الّسـاعة 11 ظهرا… من يقول أن المعركة بين الجبهة والجيش الإثيوبى(الطور سراويت) بالقرب من (عيلا برعد)… ومن قـال: أن عربـات الكمندوس محمّلة بالجيش إتجهت بالأمس صوب عيلا برعد.. ومن يقول أنّه رآى بعض الجنود من الأمحرا و وجوههم واجمة وعيونهم يشعّ منها الحقد والكره, وكأنهم سمعو بمقتل رفاقا لهم من الجيش.. وكلّها قصص تعوّد على ترديدها صبية المعهد والمدينة مع سماع أخبار وحروب الثورة وجحافل الأمحرا ومسانديهم من بنى الوطن (الكمندوس)!!!! الجزء الأكبر من تلك القصص واقع معاش والمتبقّى نسيج خيال أطفال غذّته الحياة المعاشة والوضع المكفهرّ, ولكن الحياة كمـا هى والكل مستسلم لقدر الله وقضـاءه والقلقون الصّـامتون الصابرون كُثر.. والجوّ العام يسوده الترقّب… فترى الترزى(الخيّـاط) يذهب إلى صديقه فى الحـانوت المجـاور يهمس بحديث خـافت,وبعد مداولة قصيرة يعود إلى عمله وصـاحب الحـانوت يخرج من حـانوته إلى القهوة يتبادل أطراف الحديث مع آخر..ثمّ يعود مسرعا, وأصحاب الحوانيت وتجّار الموارد البلدية فى (سوق أشّام), و(سوق برّا) و(سوق حيسس) يستفسرون ممّن تقاطر على المدينة فى الصّباح الباكر,إن رآى أو سمع شيئا فى قريته أو فى الطّريق.. ولكن بحذر.. لأن عيون الملك أيضا حاضرة تتلصّص الأخبار وتتوعّد الأخيار الأحرار من بنى الوطن والمدينة…
وفى صبيحة اليوم التالى وبعد حصّة علم التوحيد, وفى (إستراحة الإفطار.. وفى مقهى (عم بافول) أمام المسجد الكبير تصيّدت أحد الطّلاب والّذى كان قد أتى لتوّه من عنسبا ومن قرية (طبّاب) مشيا على الأقدام, كان يلقّبه الشيوخ بفرح(ود توك توك) نسبة للشيخ الولىّ المشهور من (الجزيرة) فى السّودان.. ولأن الطالب هذا كان أسمه الأول فرح…. ولكن شيخى محمّد إدريساى كان يستلطف طريقة فرح فى الحديث فهو يخلط العربية بالتقرايت مثل كثير من الأحباب فى قرية (عنسبا طبّاب).. سأله الشيخ مرّة سبب عراكه مع أحد الطّلاب فى (قهوة بيجوك).. قال فرح للشيخ: هو الّذى بدأ!
قال الشيخ كيف؟
قال فرح: هو إندى كشحنى بالموية وأنا كمان إندى كشحتو بالموية…(إندى كلمة تقرى)
ومرّة سأله الشيخ عن سبب غيابه فى اليوم الفائت من المعهد؟
فردّ فرح بلغته الفريدة سيّدنا: (وحيز عنسبا أمس كان مليان.. إناس أنا اليقول ما كان يتعدّاه وعشان كدى فضلت فى عنسبا).. والمقصود(نهر عنسبا بالأمس كان منسوب الماء فيه مرتفعا.. ولم يستطع أحدا أن يعبره للمجيء إلى كرن حتّى من يثق فى رجولته وذاك سبب غيابى!!!!
قال له شيخى محمّد إدريساى:( إندى كشحك وإندى كشحتو) ..(ووحيز عنسبا إناس أنا اليقول ما يتعدّاه) يا فرح (ود تكتوك) ما موقع هذه الجمل من النّحو والإعراب…. الله يهديك فى لغتك وفى علاقتك مع الطّلبة.. إهدأ وإتّزن وكن إسما على مسمّى… فرح لم يرى شيئا غريب ولم يلحظ أى تحرّك مريب من قريته حتّى يصل كرن… ولكن قال وجدت بعض الشّباب فى قرية (شمليوخ) والتى تبعد 4 كيلومترات من كرن شمالا يقولون أنّ الأمحرا منزعجون لأنّه قتل منهم الكثير…ذاك لم يشبع غريزتى فلجأت إلى أحد أبناء عونا.. والّذى كنت أجالسه فى القهوة وأجاوره فى الفصل وأرافقه إلى قريته (عونا) أحيانا كثيرة.. وأحيانا نصل إلى ضفاف النّهر…, ولأنّنا كنّا قد أوجدنا لغة مشتركة بيننا,وهى أنّنا شاهدنا الثورة والثوّار فى الرّيف الحبيب ولأنّه أيضا فاجئنى مرّة بخبر ومفاده أنّ ضاحية كرن (عونا) قد حلّ عندها ليلا بعضا من فدائيّ الجبهة حلّو عند عائلة ذكر أسمها وذكر إسم أحد الفدائيين وهو أخ شقيق لأحد الطلبة فى المعهد…..قال: نالو قسطا من الرّاحة وقبيل صلاة الفجر عادو من حيث أتوا,……لا أدرى لماذا وكيف وثق إبن (عونا) هذا ليحكى لى تفاصيل ذاك الحدث.. ولكن هذه القصّة ونتف من الأخبار كان ينقلها لى (إبن عونا) وبعضا من أغانى (القوليا) بالتقرى والبلين كلّها تمجّد الوطن وجبهة التحرير الإرترية, كلّ هذا شجّعنى.. لأسأل إبن عونا عن تفاصيل معركة الأمس….. !!
همس إلىّ هذا الطالب المتابع والعارف بأسرار معركة الأمس!!! فقال إبن (عونا): أن الأخبار المتواترة هناك فى الضّاحية مفادها أن ضرب الرّصاص الّذى كان بالأمس كان لمعركة, خاضها جيش التحرير الإرترى مع قوّات مدجّجة ومدرّعة إثيوبية يقودها قائد كبير من الجيش الثانى فى أسمرا,وأن القائد الكبير هذا كان قد أقسم أن ينتقم ويؤدّب مدينة( كرن) التى أصبحت عصيّة وعاصية,وقلعة للعمل الفدائى ,ولكن مخابرات الجبهة الّتى كانت أقرب إليهم من حبل الوريد, علمت بالنية المبيّتة للقائد وصهر الملك(أسرات كاسا) فكمنت له بمفرزة من أبطالها ما بين قرية (حليب منتل) و(عيلا برعد) وذبح القائد فى المعركة,وإنتصر النّسوروإنسحبو بأمان.
ما هى إلا أيام وإنتشر الخبر!!! فى كلّ القرى والحضر!! وفى كلّ ربوع الوطن , أنّ أحد المتعجرفين, المستبدّين من قواد جيش الثاثى فى أسمرا,ومن المتمرّسين فى قتل البشر,قتل وأحرق, وسلب ونهب فى (ولّقا) فى بلاد (الأرومو) وفى أرض الصومال فى (جيقجقا) إنتقل من فيلق الشّرق حديثا إلى فيلق الشّمال والفرقة الثانية فى أسمرا, ولكن فى أرض الأبطال إرتريا خارت عزيمته, ونُحر قبل أن ينْحر,أراد أن يؤدّب شعبا لم يقترف ذنبا, إلا أن قال : ربّنا الله وإرتريا وطننا,ولكن الأبطال الأحرار, والقابضين على الزّناد ليل نهار, عجّلو فى إستئصاله وشرّه, فوقع صريعا فى المعركة إلتهمته أيدى الثّوار فى معركة شرف, أراد أن ينتقم من شعب بريئ أعزل فانتقم منه الأبطال الأحرار أبناء عواتى, وأسقط فى يد قائد الجيش الثانى فى العاصمة (أسمرا) وجنّ جنون (صهر الملك) (أسرات كاسا) وفجع الملك من هول الضربة الموجعة فى إحدى أبناءه القتلة المحترفين حسّ بها فى رأسه وأصيب بالدوار وحجبت عنه النّوم وإهتزّ عرشه من قواعده الأربعة, ولكن الرّسالة الّتى خرجت من ثنايا المعركة كانت هى الأكبر إيلاما والأقوى صدى!!! ومفادها, أن الْملك والمُلك مهما قوى وبطش زائلً… زائلً… لا محالة ,وأنّ الظلم والظّالم لا يدومان…. وسجّلت المعركة فى تأريخ النضال الإرترى ضدّ غطرسة الأمحرا وفجورهم بمعركة(حليب منتل) على بعد 10 كم شرقىّ كرن وقيل سمّيت معركة (بالوا) والّتى تبعد عن كرن25 كلم تقريبا ولكنّها فى داخل إقليم (حماسين) وأكبر جيفة سقطت فى تلك المعركة كان( البريقدير جنرال… تشومى إرقتو)… وذالك كلّه فى منتصف عام ..1970…
ولم يتكهن أحدا أبدا ما كان يخبؤه القدر لسكان المدينة من صرع الجنرال ولم يتوقع أحدا بأن جثّته سوف تساوى 400 شهيدا من الأطفال والشّيوخ والنساء والرّضع,,,إلاّ ما سجلته الأحداث لاحقا من مذبحة فى (عونا) سجّلت فصلا جديدا من الظلم والإستبداد,..وجرما إنسانياّ الا يغتفر..وإحدى المواجع الإرترية الّتى لا تنسى,حرمت أطفالا من آباء, وآباءا من أطفال, وثكلت أمهات,ولا زال الكثير من أبناء (عونا) والمدينة يعانى من آلامها وأوجاعها فى الجسد والرّوح,والفضل كلّ الفضل فى ذالك لجيش (أسد سبط يهوذا القاهر- هيلى سلاسى الأول مختار الله وإمبراطور إثيوبيا) والحفافيش من الطّابور الخامس من الإرتريين .. ومن أناس لم يفكّرو لحظة أن الزّمن دوار!!! وقتل النّفس بالحرام رجْسٌ حرّمته كلّ الكتب والأسفار!!!.. ولكن لأنّ العجرفة والإسبداد,والإستهتار!!! بكرامة البشر تعْمى القلوب والأبصار!! حصلت المذبحة!!! وتركت فى عمق التأريخ الإرترى والكرنى جرحا من الصّعب محوه من مخيلة, كلّ طفل وصبىّ وعامّة النّاس فى المدينة وضواحيها, وكلّ أرجاء الوطن الحبيب.
وفى حصّة أخرى للسّيرة النّبوية وعنوانها (غزوة بدر)… قلت لشيخى سوف لن يدوم النّقل من كتب الأصحاب فى الفصل لأنّى عن طريق معارف والدى قد حصلت على الكتاب ولكنّه قديم بعض الشيئ !! وبدأت أقلّب الكتاب لأجد فيه عنوان الدّرس..
قال الشيخ: أعطنى كتابك لحظة!!
ونظر إليه مليّا!!! كتاب قديم!!! ومغلّف مرّتين!! الغلاف الثانى كرتونى لصّق على الكتاب بالدقيق!!!! أمّا الغلاف الأوّل هو غلاف (كراسة فيها الملك القاتل وحرمه وأبناءه الإثنين!!!.. ومن منّا لم يمتلك تلك الكراسة؟؟ ومن كثرة التعامل اليومى معها أصبحت شيئا روتينيا لا يهتمّ أحدا بما تحويه من صور….
قال الشيخ : بنبرة الشّاب الواثق وبأسلوب مهذّب.. وبلا غضب.. وبحديث يحمل معانى كبرى ورسالة.. يا عبدو لأن الكتب الدينية تحوى كلام الله فمن الأفضل أن تغلّفوها بأوراق لا تحتوى على مكتوب ولا صور… قلت حاضرا!! سمعا وطاعة شيخى.. ولكنّى أحسست أنّ الشيخ لا يريد أن يكون الملك حاضرا فى حصصنا وفى معهدنا… لا هو ولا أسرته وقلت فى نفسى يا إلهى لأى درجة يكره شيخى (الإمبراطور)… قلت لعمرى سوف يغضب إن عرف أنّنا إستقبلنا (ملك الملوك) إصطفّينا من الصّباح الباكر حتّى نمّلت أرجلنا وردّدنا نشيد(نوقوس نقسوم) بالأمحرنية حتّى بحّت أصواتنا وحملنا له علمه الّذى يشبهه ولا يشبهنا وكلّ ذالك قبل عامين وقبل أن نجلس على مقاعد فصول المعهد… ثمّ ترجّل الشّيخ ومرّ على الطّلبة واحدا واحدا وهو يلقى الدرس و ينظر إلى كرّاساتهم وكتبهم..وبحاسّتى أدركت أن شيخى يبحث عن من غلّف كتابه أو كرّاسته بجرائد الأمحرنية أو يقتنى الكرّاسة الّتى فيها صور الملك,,, هكذا فهمت وفهم غيرى ورسالة الشيخ وصلت فى أبهى صورها وأبلغ حكمها دون أن ينطق أو يفيض فى الحديث …
ولا زال الشيخ يلقى درسه فقال: كانت المعركة بين الحقّ والباطل,وإنتصر فيها رسول الله والصّحابة الأجلاء لصحّة عقيدتهم وبما آتاهم الله من إيمان قوىّ وثبات منقطع النّظير, إنتصرو بعددِ وعدّة قليلة,على عددِ وعدّة أكبر لأن قائدهم كان محاربا وقائدا وقدوة, وفى المقدّمة ولم يكن ليدفع بهم فى أتون المعركة وهو يحتمى بخندقِ أو مصفّحة ويكون دوره فى المعركة فقط أن يقول( بلاتشو لوربلوش)…أَضربوهم المارقون.. وأربطوهم بما عندكم من حبال إنّهم أطفال صغار سزّج لا يعلمون ما يفعلون.. وساد الفصل الصمت لدرجة الوجوم الكلّ يستمع مشدودا ومسحورا, وحلّت عقدة اللّسان عند الكثيرين, وأمطرو الشيخ أسألة ,وإستفسارات, بلا خوف بلا تردّد.بوئام وإنسجام, ودخل الشيخ قلوب الأطفال الصّغار بلا إستئذان.
خيّل ألىّ أنّ شيخى هذا الّذى يقف أمامى.. وكأنه قائدُ عسكرىّ يحاضر قوّاته,ويؤهبها لمعركة قادمة,وكلما ينتقل من فصل إلى آخر من سرد معركة بدر ويجد لها رابطا مع الوضع الإرترى, يترك مجلسه ويترجّل من وإلى الباب,واليوم كلّما أذكره أرى صفة التوأم فيه و قائدِ جبهجى آخر مشترك معه فى العزّة والإنفةوالتعثر فى المشى لإصابة فى الرّجل, الأوّل قاد المعركة فى الأدغال والأحراش وأصيب فى رجله اليمنى وأصبح القائد المشهور بعرجته فى المشى, وشيخى ولد بعاهته هكذا يقود جيوشا أخرى من الدّاخل وفى قلب مدينة كرن ومن شدّة الولع والحبّ لشيخى القائد صوّر لى , أن كلّ قائد فى الثورة ربما يعرج فى مشيته …..
وفى حصّة أخرى مع معلّمى وشيخى القائد (محمّد مرانت منصور) وعنوانها (غزوة الخندق) فى سيرة الرّسول العظيم من كتاب مختصر سيرة الرّسول لإبن هشام ومرجعا آخر جلبه أحد الأعمام من السّودان بطلب من والدى أهديته لشيخى وعنوانه (مورد الصّفا فى سيرة المصطفى) دخل الشيخ الفصل…. قام الكل تحيّة وإجلالا…. ولم يتخلّف أحدا ولم يتأخر أحدا… فى حصّته الكل حاضر و ينتظره بفارق الصّبر…ألقى الشيخ القائد التحيّة وبعد مقدّمة خفيفة وبسيطة….
بدأ فى سرد وقائع معركة (غزوة الخندق) وكأنه يريد أن يجعل من سيرة الرّسول(ص) مادة للتثقيف الوطنى وتثوير المعهد وإشراكه فى معركة الدفاع عن الكرامة, فى كلّ فصل من الغزوة يقحم الشأن الإرترى عن قصد, ويتفاعل الطلبة عن رضا نفسِ, والبعض يتجاوب بإنفعال لكونهم فى سنّ الكمال أو أقرب,وجاء الحديث عن المنافقين فى غزوة الخندق,وجاء وجه المقارنة و منافقى تلك الأيّام فى إرتريا,قال عنهم: يقولون ما لا يفعلون ويبيعون الأخوّة والمواطنة, والوطن من أجل( ملاليم, أو وجبة أو لوح من الإنجيرا) يصلّون ويصومون, ويتحدّثون لغتنا ,يعيشون بيننا, ويحملون أسماءا إرتريّة ولكنّهم يخونون الوطن والملّة,, والفصل يستمع فى وجوم من جرأة الشيخ القائد ثمّ إنبرى الشيخ ليقول: أقول لكم عن تجربتى فى السجن!!!!
وهنا لم نتركه يواصل سأله طالب ولحقه آخر وتبعه ثالث ..ورابع بعفويّة وبلا إستئذان ( سيّدنا إنتمّا سجونام علكم؟؟؟ ومدول فقركم منّو؟؟؟؟, ومى وديكم كسجّنكم؟؟؟؟؟ وأيا أكان سجونام علكم) والمعنى: حتّى أنت شيخى كنت فى الّسجن؟؟؟ ومتى خرجت منه؟؟؟؟ ولماذا سجنوك؟؟؟؟ ماذا فعلت؟؟؟؟ وفى أى سجن كنت؟……أمّا الطالب (إبراهيم ) الواثق من نفسه والعارف ما لانعرفه نحن!!!! قال للشّيخ اليوم نريد أن نسمعها منك كاملة عليك الله والرّسول.. أن تحكيها لنا كاملة!!!!
إستغربنا لجرأة الطّالب (إبراهيم)… إتّضح أنه يعرف الكثير والكثير.. ممّا يخبأه الزّمن..
ظننت حينها أن الطلبة من قوّة الإنجذاب والتعلّق بالشيخ لو وقف سجّان الشيخ (مرانت) فى تلك اللّحظات أمامهم لا شعوريّا لنهشو لحمه وعظامه وبأيديهم الصغيرة… ولكنّهم لعنو السّجن والسّجانين,وكلّ العسكر والمخْبرين, لعنوهم بحقّ كلّ المذاهب الأربعة لعنوهم بعظمة القرآن الكريم الّذى يقرأون كلّ صباح..بمعيّة الشّيخ(محمّد إدريساى)..لعنوهم بعظمة خاتم الرّسل محمّد..ثمّ عادو ليستمعو لسيرة سيّد الرسل محمّد من المعلم محمّد…. (مرانت)….
نظر الشيخ برهة إلى الطلبة وكأنه يفكّر فى إجابة ثمّ قال:(صبر دو حتّى مرّت,إى تتهوّكونى) عليكم بالصبر!! لا تستعجلو !!!وكأنه يريد أن يقول لا زال مشوارى معكم فى بدايته!!
فى تلكم اللّحظات هبط الشيخ من المنضضة الـتى كان جالسا عليها.. الشيخ (مرانت) مثل الشيخ الجليل (محمّد إدريساى) يجلس على المنضضة بدل الكرسى ليعلو ويسمع الفصل كلّه لكبر عدد الطّلاب فى الفصل .. وليسمع الكبار الّذين فى الخلف… هبط وترجّل.. لم يبقى لى إلا أن أمسكه من جلبابه وأقول له شيخى إنتبهت كلّ حواسى وتشنّجت أعصابى أريد أن أسمع أريد أن أعرف.. أسرع فى ما تريد أن تقول… لنعرف المجرمين الّذين سجنوك.. ولنعرف حجم الجرم الّذى إرتكبوه؟
لا أدرى لماذا كان عندى سابق إعتقاد بأن الشيخ لا يسجن ولا يستحقّ السجن,لأنه شاب صغيرا لم يتذوّق طعم الحياة بعد وبه عاهة!!! فطره بها خالقه,لا ظلما ولا نكاية ولكن تحقيقا لمشيئة الواحد القهّار, ولحكمة يعلمها هو وحده لا غيره, وحكم الله رضى. وبدأ الكل يتوق لسماع تجربة الشيخ فى السّجن!!!!!!
قال الشّيخ: كنت على موعد مع رسالةخاصة تأتى من (عنسبا) تحملها إمرأة….
وفى أجلِ قريب وفى الحلقة القادمة عزيزى القارئ… نرى مصير رّسالة الشّيخ فحواها ومحتواها… والّتى إقتادته إلى السّجن….وحتّى ذالك الحين لك منّى السّلام مرفوقا بإحترام.
حكـــــايـات من بــلادى
مرانتْ
الشّيخ القائد
الحلقة الرّابعة… وسنة أولى سجن(2)
أهلا بك عزيزى القارئ أين ما كنت ولك الشّكر على القراءة والتواصل فى ما أكتب, وهذه هى الحلقة الرّابعةمن تدويناتى حول الشّيخ (مرانت)…
وقبل البدء أعتذر لتأخير الحلقة الرّابعة وذالك لأسباب خرجت من الإرادة وعلى رأسها أسباب العيش والمعيشة ثم مغادرة محلّ الإقامة….
ثمّ أغتنم الفرصة و أهـنّئ الشّعب الإرترى بمناسبة اليوبيل الذهبى للثورة الإرترية ثورة الفاتح من سبتمبر.. وأحىّ قائد الثورة ومفجّرها كما أحىّ كوكبة الرّعيل,وكلّ من ساهم فى صنع الثّورة,وأزكاء الشّعلة,فكانت الثّورة ثمّ الدولة.
ثمّ: أشكر الأخ (عامر صالح حقوص ) من أستراليا على التفاعل فى كلّ مواضيع التّدوين وخاصّة فيما ورد فى الحلقة الثالثة حول (مذبحة عونا)… تلك المذبحة الّتى لا تحطئها عين التأريخ الإرترى ولأنّنى ذكرت فى صياغ يوم ذبح البريقادير جنرال ( تشومى إرقتو) أن جثّته كلّفت الشعب الإرترى 400 من الشهداء أطفالا ونساءا وشيوخا فى (عونا) عقّب الأخ عامر بوثيقتين قدّرت إحداهنّ الشهداء بأكثر من ألف والثّانية بما يربو على 750 شهيدا,ولكنّى بعينى صبىّ حام حول الجثث مع الأعمام والأخوال بحثا عن جدّته, قدّرتها بالأربعمائة وقليل من الزّيادة والموضوع يحتاج إلى كثير من البحث والتدقيق والإتصال بمن حضر وشاهد الفاجعة ووارى الجثث البريئة, الشّريفة,عشرة فى حفرة وخمس فى أخرى, وأحيانا مجموعة من أفراد الأسرة الواحدة فى حفرة واحدة بعد التّعرّف عليها وإبلاغ ذويها.وفى نفس مكان الإستشهاد,وأمام المنازل المحترقة كليّا أو جزئيا ولكنى … وحتّى لا أطيل وأنصرف عن الموضوع الأساس أكتفى بهذا القدر.. ليكون لى عودة للموضوع فى مقام آخر وعنوان منفصل قريبا إن أطال الله فى الآجال .
فقط للتذكير: ذكرت فى الحلقات الفائتة عن المعهد العتيق وموقعه والشيوخ والمعلّمين فيه, وما مثّله المعهد الدّينى من مركز إنطلاق للدفاع عن الهويّة, تركيزا على معلّمى لمادة (السّيرة النّبوية) وموضع قصّتى (مربّى الأجيال وقائد الثّوار فى محراب الثّورة (كرن)…. الشّيخ القاضى والقائد (محمّد مرانت) ودوره فى المعهد فى إزكاء روح الوطن والثّورة, وعرجت على حادثة تصفية (الجنرال تشومى إرقتو) فى أول عام لى فى المعهد العتيق.وكان الشّيخ نزيل السّجن بسبب رسالة روى تفاصيلها …
قال الشّيخ كنت على موعد مع رسالة تأتى من (عنسبا) تحملها إمرأة, أتّجهت نحو مرفأ الحافلات الرّئيسى فى المدينة( بياسا) قبيل صلاة الظهر, (تراآ لى الشّيخ حينها شابا يستظلّ بأشجار(النّيم) والّتى تحتضن ال(بياسا) فى شكله الدّائرى وظهره على مطعم (ودّى لبّى) ومكتب البريد والتّلفون القديم وفى الجهة المقابلة يرى مكان رسوّ الحافلات القادمة من تسنى وأغردات ويتأمّل موقعين مهمّين أمامه صنعت فيهما أحداث وأيّما أحداث وهما منزل الشّريفة علويّة الميرغنيّة من أكثر مؤيّدى (برو إيتاليا) الحزب الموالى لإيطاليا,ومقرّ الحزب نفسه….يترقّب حركة البشر ويلاحظ كثرة الغرباء فى زيّهم العسكرى والمدنى..يقف هناك فقط مثل ما يفعل أى مغادر أو مسافر.. ولكنّه وقف هناك ليصنع تأريخ !!!
وقفة كانت حدّا فاصلا بين مرانت الطّالب ومرانت المعلّم ومرانت السّجين ورمز الكفاح والمقاومة.. وصنديد العمل السّرى..
شابا بجلبابه الأبيض وعلى رأسه (طاقية) يلتحف (شالا) , يكسوه الوقار, ويظهره فى عمر أكبر, مثله مثل كثير من طلاّب العلم فى معاهد المدينة, وفى جيبه الأعلى فى شمال صدره قلما يميّزه من العامة, يستوقفه أحيانا أحد الأعمام ليكتب له رسالة سريعة وهو يحمل ورقة وظرف, والحامل المفترض للرسّالة يضّطجر من التأخير, لأن الحافلة الّتى تقلّه (إلى سبر أو حشيشاى) على وشك المغادرة, ولكنّ السّائق فقط ينتظر حامل الرّسالة هذا (وهو ينادى مطلاّ برأسه من منفذ الحافلة يلا خارجونا).. لينطلق إلى مبتغاه…. تخيّلت الشّيخ فى ذالك الموقع وهو يتأمّل الرّائحين والغادين من وإلى المدينة من أبناءها ومن رحاب الوطن ويعزّ عليه أن يرى الغرباء هؤلاء يتبخترون مشيا فى المدينة ويزدرون الضعفاء والمساكين يتبخْترون وكأنّهم ليسو من جنس البشر بل أناسا إختارهم الله وفضّلهم على العالمين, يمشون على الأرض الطّاهرة وكأنّهم يملكونها ويملكون شعبها الشّيب والشّباب… ولكن الشيخ القاضى والقائد: ينظر إليهم نظرة إحتقار وكأنّه يريد أن يقول لهم ليتكم تفهمو وتعرفو أنّكم مغادرون هذا البلد الأمين يوما ما!! حفاة عراة كما غادرها أجدادكم بعد أن عاسو فيها فسادا (الطّالب إبراهيم):
دائما ليس له فى الإستراحات إلا أن يحكى فى السياسة: سوف نهزمهم كما هزمنا أجدادهم الظّالمين المستبدّين هكذا كان يقول جدّى ( مسْمر ود قدار)… تحمّل أهل عنسبا (رأس ألولا) وأخيه بلاتا قبرو عندما بطشو ونكّلو بالنّساء والأطفال.. ونهبو الأغنام والماشية.. وأحرقو الزّرع.. فغلى الدم على رأس فتيان (عنسبا) بعد أن رأو الظّلم الفادح والحكم القادح .. ليقفو مكتوفى الأيدى..فشارو على شباب (عد تماريام) وجيرانهم من شباب (عد تكليس) ليهجمو فى ليلة ظلماء على جنود الطّاغية (بلاتا قبرو) فى معسكرهم فى (قبنا قنفلوم) ليكثرو فيهم القتل وليثأرو لشريفات الوادى… ويلقّنو (بلاتا قبرو) وجنوده اللئام درسا كان يفترض أن لا يمحى من ذاكرة الغزاة الجدد وملكهم (هيلى قمّام) ولكنهم إستبدّو وجانبو الصّواب ولم يملكو من أسباب التّمكين قدرا أكبر, إلاّ قوّة آنية حرّكتها الأحقاد الدّينية والشّوفينية والتعالى وجزء من أساطير التّأريخ بالأحقية فى الملك وللسّييطرة على البلاد والعباد وزرع الفتن والاحقاد… ولكن الشيخ يغادر مكانه ليعود إليه ثانية بعد أن قطع عليه عراك (صبية البياسا) حبل تأمّلاته يتعاركون فى من أولى ومن يسبق أخيه فى كسب زبائن (شركة ستايوللنقل) القادمين من ( تسنى) و (حمرا) الإثيوبية وجلّهم من عمّال المشاريع الفقراء من إقليم (تقراى الإثيوبى) هؤلاء لا يشترون شيئا إلآ بشقّ الأنفس ولكن يصرّ الصبية الكرنيّون عليهم لشراء الجوافة والبرتقال ولكنّهم لا يشترون فى الغالب الأعمّ إلا (الليمون) لعلاج الدّوار والتقيّئ الّذى يصاحبهم منذُ الإنطلاقة الأولى فى تسنى المدينة. يراهم وهم يغادرون والبعض منهم يصرخون لأن أحد (صبية البياسا) أخذ النّقود ولم يسلّم سلّة (اللّيمون) أو الجوافة ولكنّهم يغادرون نحو(الشّرق ) من حيث أتو وهم يصرخون لأنّ الحافلة يجب أن تغادر أرادو أم لم يريدو … يلتفت الشّيخ القاضى ليرى مجموعة من أبناء عمومتهم بالزّى العسكرى: (طور سراويت) مدجّجون بالأسلحة يشترون الجوافة والبرتقال وهم على ناقلة جند من صنع أمريكى ولكنّهم لا يضّجرون ولا يصرخون ولكن يلتهمونها بشغف … وبالرّغم من ذاك العزّ والهندمة والفشخرة تخيّلهم يوما ما يغادرون البلاد والمدينة وعلى نفس ناقلاتهم أو حفاة عراة بيكون ويصرخون و(صبية البياسا)و يرمونهم بالّليمون) والجوافة والحجارة….و تلك كانت أمنية كلّ حرّ إرترى..ودارت عجلة الزّمن دورانها, وأصبح الحلم حقيقة يرويها الواقع… ورآهم الشيخ بأم عينه يبكون ويتحسّرون يغادرون من نفس الموقع ولكن إلى الغرب إلى السّودان… وهكذا كان قدر الشّيخ بعد ربع قرن من عمر الزّمن يقف فى نفس الموقع أو قريبا منه بأمتار معدودة, ليكون شاهدا على المغادرة والهرولة المذلّة… وقد يكون رآى أ آخر جندى (إثيوبى) وهويغادر المدينة والوطن فى حافلة أو قاطرة أو مترجّلا والصّغار يمدّونهم بالماء والغذاء… والأمهات وصبايا الأحياء القريبة والبعيدة ينظرون إليهم نظرة وداع وإنشغال وحيرة والكلّ يحمل سؤالا فى ذهنه لا يجد له إجابة.. يا إلهى ماذا سوف يكون مصيرهم؟ وهل سوف يعودون ثانية كما عادو فى ربيع عام 1978؟؟؟ وإلى أين هم ذاهبون؟ ألم يمرّ الطّريق إلى إثيوبيا عبر أسمرا أم دارت الكرة الأرضية فأصبحت (مقلى وأديس أببا) تؤتيان عن طريق (أغردات)..ولكن لحظات وساعات وكأن الزّمن توقّف والكرة الأرضية حبست عن الدوران فى تلك البقعة من العالم لتحدّد وجهتها وساعة الصّفر ثمّ تدور… ويدوّن مدوّن التّأريخ فى كتاب (إرتريا) وفى صفحة جديدة وحديثة… من هنا بدأ الفجر الجديد!!!! ولكنهّم رحلو وغابو وغربو مع غروب الشّمس فى أحد أيّام الجمعة المباركة والبعض منهم يردّد سوف نعود…سوف نعود… سوف نعود لشعب كرن الطيّب المضياف ولكن … صبية الأحياء قلبو المشهد ..فلم يقذفو بالحجارة… بل مدّوهم بالماء والغذاء.. والبعض رفع اليد ملوّحا بالسلام والوداع , لأن حفنة من ( أبواق الحزب الحاكم( الإيساباكو) ناصفت الصّبية والحريم المأكل والمسكن فى الأحياء الشّعبية.. والبعض منهم كان له دينا ظلّ مقيّدا على ذمّته فى حانوت الحىّ ولكنّه رحل ولم يسأله أحد فى شئ رأفة به من المجهول الّذى ينتظره والجحيم الّذى يعتصره.. و من صنع يديه…. وبالرّغم من هذا وذاك إنّه .. مشهد درامى إنسانى يحكى نهاية فصل من فصول الصّراع بين إبن الإنسان للسيطرة على مقادير أخيه الإنسان وأحيانا بطرق قهرية وصدامية ودموية.. وتلكم قصّتنا مع الغزاة من (شوا وتقراى) على مرّ العصور..ولكن عندما وعندما ينتصر الإرترى المظلوم المقهور يعفو ويصفح… ويقدّم الماء والغذاء ويودّع الضيق الثّقيل بإحترام.. لعلّه يقدّم لسكّان الجبل درسا فى الأخلاق…فى منظر مهيب تتجلّى فيه إنسانية الإنسان الإرترى فى كلّ المواقف والأزمنة.
قال الشيّيخ: إنتظرت الحافلة الّتى تقلّ حاملة الرّسالة فى المحطة الرّئيسيّة (بياسا) قبيل صلاة الظّهر ولأن الحافلة محطّة إنطلاقتها الأولى كانت مدينة (نقفا) تأخّرتْ من موعد وصولها إلى كرن قليلا.. وأنا أقف فى (البياسا) مرّعلىّ كثير من الحافلات من( تسنى) و(أغردات)..و(حقّات) وغيرها من المدن الإرترية!!!وسكان المدينة من باب المجاملةوالتواصل يكثرون علىّ السؤوال ويلحّون أحيانا!!! هل تنتظر أحدا محمّد؟ أقول نعم .. والبعض يسألنى قائلا: محمّد إنشاء الله خير ما الّذى يوقفك هنا؟؟ هل أنت مسافر وإلى أين؟ أقول خير لا شيئ يدعو للقلق!!! ولست بمسافر وكنت أتمنّى من دواخلى أن يتركونى وشأنى!!ولكن أبتعد أحيانا كلّ ما ترسو حافلة على المحطة هربا من أسألة المسافرين والمودّعين وإستجواباتهم العفويّة المشحونة بحبّ الإستلاع!!! ولكن لم تدركنى فراستى فى ذاك اليوم بأن هناك من يراقبنى ويتتبّع خطاى, من موقع ليس ببعيد من محطّة الحافلات!!!! وقفت لزمن ليس بقصير أتأمّل فيها حركة البشر الرّائحين والغادين من وإلى المدينة,وأخيرا وصلت الحافلة المرتقبة… وهبط الرّكاب تباعا الواحد إثر الآخر, وهم من .(.نقفا أم برود).. (أفعبت) ..( قزقزا),(وكربا برد), و(باشرى),و( قبنا قنْفلوم) ومن بقيّة قرى إقليم عنسبا والسّاحل ..وأنا اقف على مسافة قريبة, من الحافلة ونظرى مركّز على اللّذين يهبطون منها , بحثا عن حاملة رسالتى, هبطت من إنطبق عليها الأوصاف, وتقدّمت وألقيت التّحية,وهى تعرفنى وأعرفها لأنّنا أبناء عمومة, وبعد حديث قصير, والسؤال عن الأهل والأحباب, لم تمد يدها لتعطى الرّسالة ولكنّها قالت: محمّد!! أحمل لك رسالة !! قلت لها ونحن نترجّل متّجهين إلى خارج المحطّة أعرف ذالك!!!! أعطنى الرّسالة !!! تلك المرأة الشّريفة المناضلة لم يطرق الخوف قلبها, لم تلتفت,ولم تتردّد, ولم تفكّر فى شيئ أخرجت الرّسالة من مخبئها وناولتنى إيّاها!!!!!! لم أنظر إلى رسالتى بل حشرتها بسرعة فى جيبى..وودّعت المرأة الشريفة, وهممت أن أتّجه نحو المسجد لأداء فريضة صلاة الظّهر…. سمعت من خلفى صوتا ينادى (محمّد)…(محمّد)…. إلتفتّ خلفى لأجد(محمّد آخر) الرّجل الّذى أعرف وأحذر!!!!…ربّما تعرفونه!!!! خطف الطّالب(إبراهيم) الكلمة ليقول نعم سيّدنا: بشاربه الكثيف وأسنانه البارزة,وعصاه المزخرفة بالجلد وحذاءه العسكرى بلا جرابات وبلا رباط , ومشيته الّتى ليس فيها إنضباط!!! لا أدرى كيف إختاره من إختاره ليكون مخبرا وعسكريّا وهو…. ولأن الحديث عفوى.. يقاطعه الطّالب (جانكرا) …
وهو يغلى ويعضّ فى أسنانه وكأنّه يريد أن يقفز من مقعده ليدرأ الخطر عن الشّيخ قائلا: لا يهمّهم إنضباطه ومظهره أرادوه أن يكون مخبرا والمخبر مهمّته إيصال الخبر وتتبّع الأثر, لمن خالف (الملك المفدّى) فى أىّ أمر..ويقاطع أيضاالطّالب (إبراهيم) زميله (جانكرا)قائلا: ولماذا يناقض نفسه ويغطّى رأسه بالعمامة!!! أليست هى لباس المسلمين ولباس والأتقياء حماة الوطن!!
ولكن الشّيخ الصّبور(مرانت) لا يقاطع بل يستمع بهدوءه المعهود… هممت أن أقول : (ربّما الملك لا يرسل المصروف الكافى لذالك) ولكن الموضوع مفهوم ومعروف الملك لا يدفع بسخاء, وما يكفى للتهندم, والفشخرة,مع أنّ الجنود الأمحرا نراهم فى أبهى حللهم… الملك لا يدفع لمن يندفع فى حبّه بلا حدود,ولمن يبيع بلا ثمن أرض الجدود, لا يهمّه أحدا, بل يدفع له الكلّ ويسجد له الكل بل هو ملك الملوك ونائب المسيح فى الأرض يملك الأرض والبشر,ويملك القصور ,الّتى يكنز فيها الذّهب والفضة والنّقود, ولكّنّه لا يعطى بسخاء,لمن يستحقّ ومن لا يستحقّ لأنّه ملك ليأخذ فقط !! مال النّاس وأرضهم, وأرواحهم إن إستدعى الأمر, وملك ليؤدّب من شقّ عصا الطّاعة, ويضرب بكلّ بشاعة,وكلّ من يعاونه على ذالك هو السّازج!! هو الباطل وعلى باطل إن لبس عمامة,وإن لم يلبس, وإن حمل(شيرا) (ذنبا) يهشّ به الذّباب أو صليبا وإن لم يفعل؟….
العمّة ليست مقياسا لحبّ الوطن!!كم من أناس حملو سلاح الملك ولم يعتدو به على بنى ملّتهم وضيعتهم ولكّنّهم وجّهوه إلى صدر الملك وعسكره عندما سنحت الفرصة!! ولكن قلت فى نفسى الملك له مهمّات ومهام وأولويات!!! ملكه ونظامه الكهنوتى أولا!! أمّا أن يهتمّ بملابس المخبرين والمنتفعين..فذاك من التّرف له إهتمام بحاشيته من الأمحرا من (شوا) و(قندر) ثمّ (تقراى) ليأمن شرّهم,ولدواعى صيرورة النّظام وثباته, ومن ثمّ كلابه الّتى تأكل لحم الضأن والألوف من البشر فى (ولّو) و(تقراى) تموت جوعا… فى مشهد متكرّر كلّ بضع من السّنين والأعوام… وكلبته (لولا) لها مكانها وسحرها وإحترامها يقولون العامة هى الّتى طلبت منه أن يخرج مسرعا من مدينة (كرن) عند زيارته لها (1967-1968) و بعد إفتتاح المدرسة الثّانوية(هطى داويت) ومن ثمّ أراد زيارة مدرسة الصمّ والبكم ولكن (كلبته ) المحروسة لأّنها تملك السّحر وتعرف الخفايا ولأنّها هبة من هبات الله للملك!!!رفضت بهزّ الذّنب وكثرة النّباح لأنّها إشتمّت رائحة شرّ قادم, ولأن المدرسة المقصودة, فى الطّرف الشمالى من المدينة وأقرب إلى (عونا ) ومناطق التّماس بين حدود الدّولة والثّورة!!!قال أحد العارفين الإثيوبيين: تلك الكلبة هى سليلة كلبة أهدتها له الملكة (إيلازابيث) ملكة بريطانيا عند ريارته لها عام 1956 فى قصرها فى (بكينجهام)… ولكنّه أتى ليعرّفنا ويخوّفنا بها فى( كرن) وهى فى حجم القطّة أتى بها جالسة على زراعه الأيسر فى سيّارة أمريكية فاخرة, والعسكر بالدراجات النّاريّة والحصين عن يمينه وعن شماله, والنّعمة ظاهرة على محياها, قلت فى نفسى كلابه أولى بخيراته, وإن تأفّفت أو شبعت فالباقى يعطى للمخبرين, والمتملّقين, والمنتفعين. ولكن!!!! يقول الطّالب(جانكرا) مستدركا:….
لماذا يلبس ذاك المخبر السّترة العسكريّة مع تلك الملابس البلدية, بإثتثناء الحذاء العسكرى من غير رباط؟؟؟ يقول الطّالب (إبراهيم): السّترة العجيبة تلك تجدها أحيانا منتفخة لأنه يستعمل جيوبها بدل حقيبة,فتجده فى المساء وفى جيوب سترته تلك مصاريف المنزل كلّها من سكّر وحب شاى والبن (الحبشى)….و قناديل من (العيش الرّيفى) و (علبة التّمباك)…. ولكن الشيئ المهم والأخطر هو ما تحتها… المسدّس القاتل.. الّذى يهبهم له الملك ليؤدّبو ويقتلو به بنى جلدتهم.
قال الشيخ: سألنى هذا المخبر قائلا؟ محمّد ما الّذى أعطتك إياه تلك المرأة؟؟ قلت رسالة من أهلى!! قال: أعطنى إيّاها لحظة أراها!! قلتُ : تلك رسالة خاصّة بى بأىّ صفة تريد أن تراها؟؟؟؟ ولكنّى أحسست بوجود إثنين من المخبرين إيّاهم محشورين فى زاويتين من الشّارع!! يراقبون ما يحصل بينى وبين (مخبر الملك) هذا..و حينها أيقنت أنّهم يضمرون السّوء وعلى نية مبيّتة… قال المخبر: من الأفضل لك أن تسلّمنى الرّسالة لأنّى أعرف مصدرها!!! يقول الشيّخ: قلت وأنا أحادث نفسى ماذا يريد هذا المخبر؟؟ كيف عرف بأمر الرّسالة!!! وماذا يريد أن يعرف من مضمون الرّسالة!! إنه سازج وأمّى لا يميّز بين(جيم) الجهل و(خاء) الخيانة… ولكن أيقنت أنّنى فى لحظات حاسمة, وأمر مصيرى يتطلّب الجرأة والحسم والمبادرة , عزمت على فعل شيئ,,,,, وألهمنى الواحد القدير وهدانى إلى فكرة!!!! وهى بلع الرّسالة ومضغها وإعدامها بالمرّة ليختفى سرّها معها.. وأكون أنا المسؤول عن فعلتى لوحدى.. وكفى الله المؤمنين شرّ القتال…. ثمّ قزفت بها على الأرض وقلت له: (أزى نسآ من نفّعكا) خذها الآن إذا نفعتك فى شيئ!!.. وحينها وهو يحاول لوى زراعى مستعملا قوّته ومستغّلا طوله وحجمه الكبير هجم الإثنان الرّابضان على الأركان علىّ… وأشبعونى ضربا وركلا والثلاث إقتادونى إلى مقرّ إمتحان الرّجال .. إلى سجنهم المسمّى (كارشيلى), يأتى أحدهم يسألنى : قل الحقيقة ماذا كان من أمر الرّسالة وسوف يخفّف عليك ذالك وربّما أطلقنا سراحك إن قلت الحقيقة!!… وأنا أرد بأن الرّسالة عائلية!! ولم يكن بها شيئ وبعد فترة شهر تعذيب وتحقيق فى سجن (كارشيلى) فى كرن قدّمت للمحاكمة والحكاّم (أمحرا ) ومن العسكر و أبعد بنى البشر من الحكمة والعدل ولذالك حكمو بما أراد الله… على العبد الفقير سنة سجن لأقضيها فى سجن كرن (دقانا). وإنقضى العام بخيره وشرّه قبل أن أتشرّف بتدريسكم بزمن قليل….!!!!!!
قال له أحد الطّلبة: ولكن سيّدنا( لرسالة من ندأيا ديبكم؟ ومى كتوب ديبا علا)؟
والمعنى: من أرسل لك الرّسالة وماذا كان مضمونها؟
ردّ الشيخ: الرسالة كانت من إخوة لى!! أرادو أن يطمأنّو على أن الكل بخير يريدون دوام الحبّ والوفاء بيننا!!
أضاف الشّيخ هذا يكفى…هذا يكفى… هذا يكفى.. أردت فقط كشف المنافقين يننا وكفى!!
يواصل الشيّخ: وفى السجن وجدت ممّن أعرف ومن جمعتنى بهم الأقدار لأول مرّة, وجلّهم من مدينة كرن وضواحيها وأغلبنا من المسلمين نصلّى ونصوم ويعطى لنا فرصة لنتجمّع ونشكّل حلقة دراسية لدراسة بعضا من أمور الدين, وكان لنا أيضا فرصة أخرى نخرج فيها للحاجة ونطلق الأرجل مشيا فى فناء السجن, ونحن فى حلقة الّدرس سمعت صوت العسكرى حارس السجن الّذى يحادث الزوار من ثقب فى الباب أ وجد خصيصا لذاك الغرض,وأحيانا من خلف الحائط الّذى خفّض علوّه فى مكان مخصّص,لتمكين الحارس من معاينة الزّوار , والحارس فى ذاك اليوم كان عسكريا, ناطقا بالتقرى مسلما أسمر اللّون قصير القامة وقصره كان يعيقه من الحديث مع الزّوار بسهولة من وراء حائط السجن, والحارس الآخر كان يجلس على البرج العالى والّذى يرتفع تقريبا ما يقارب الخمسة أمتار من الأرض وهو من المتحدثين بالتقرنية…
سمعتُ العسكرى النّاطق بالتقرى يقول: لا لأ لا لأ إلى إناس منّو تسألى هليكى إى هلانى إنسر إبلكى هليكو….. والمعنى…. (لا لا هذا الرّجل الّذى تسألين عنه غير موجود هنا)
الصوت الآخر من الخارج:( إنسر هلا بيلونى أبويا إنت إكيت تسرركا, سأل منو إى) والمعنى (قيل لى أنّه هنا..بابا ألله لا أراك مكروه, أسأل لى عنه!!!
العسكرى: (إنسر إيهلا إبيلكى.. مى إسيت إنتى هيقا سمعى) والمعنى : قلت لك أنه غير موجود هنا إسمعى الكلام!!
الصوت الآخر:( يبّا إيفالكا!! أمْ أنا درار أمّو.. وحر هيّ مدرنا رييمتُ برى فقر من عنسبا مطعكو عنْ إقل إكرى!!
المعنى: لا تقول هذا.. أنا أمّ.. وبلدى بعيد جئت من عنسبا فقط لألقى عليه نظرة!!!
العسكرى: عنسبا أىّ أكانو (أى مكان فى عنسبا)
الصوت الآخر:( وازنْتت أبوى أنا).. من قرية (وازنتت)
العسكرى: (إى هلاّنى إمبيلكى إتلّى سجن هقيا سمعى وعدكى أقبلى).. قلت لك أنه غير موجود فى هذا السجن أرجعى إلى منطقتك!!!
يقول الشيخ: أن الصوت نسائى وقادم من عنسبا ومن قرية ( وازنتّتْ) بالتحديد….. قلت فى نفسى ربّما أحدا من أسرتى قدم لزيارتى!!!!
صغار الفصل وكباره وكأنّ على رؤوسهم الطّير!!! لاتسمع صوتا ولا حركة,وكأن الفصل لم يكن به أربعون روحا, يمرّ أحد الشّيوخ الكبار,أمام الفصل ويمرّ آخر وكأنهم ممتنعون موافقون, يعلمون ما يحادثنا فيه,الشيخ ولا يعلمون, وإبن (وزنتتْ) لا يبالى بأحد,… لأنّه الشيخ الواثق فى ربّه ونفسه.. يواصل الحديث وكأنه ينفّذ عمليّة أو مأمورية ولكن بثبات وإقتدار وقناعة… قائلا:
تركت حلقة الدّرس وإتّجهت نحو العسكرى.. وناديته بإسمه وقلت له عمّن تبحث تلك السّيدة؟
العسكرى: الموضوع لا يهمّك أنت فى شيئ إرجع مكانك!!
أثناء محادثتى للعسكرى وإقترابى من الحائط, سمعت الصوت النّسائ من الخارج يقول:
يبّا سميتُ محمّد مرانت..تا.. عدّو هىّ (وازنتتْ) تو.. . كرياى تو سيما بعل شر إيكون!!!
والمعنى:إسمه (محمّد مرانت) وبلده قرية ( وازنْتتْ) إنه طالب علم.. لا يأتى منه شرّ!!ً
صمت الحاجب الدّيوس خائن الملّة والوطن… ونظر إلىّ بتهكم..
تعرفت على الصّوت الّذى يأتى من خارج السّجن إنّه صوت أمّى!!!!
قلت: أمّى…أمّى.. أنا هنا… أنا هنا…!!!
ردّت والدتى من خلف جدار السّجن:..يبا محمّد إنتاتو مامينى أناتو يبا إمكا ولدايتكا إقل إرئيكا مطعكو وكسّار إقل أبطح!!!
والمعنى:(محمّد هل أنت محمّد.. أنا أمّك يا محمّد والدتك.. جئت لرؤيتك وجلبت لك لقمة تأكلها!!!
فى تلكم الأثناء يقول الطّالب ( إبراهيم ).. نسى الشّيخ (إثيوبيا) وأفعالها ..وجورها وفجورها.. ولكن تراآ له كلّ المنافقون وأفعالهم فى المدينة فى شخص ذالك العسكرى السّازج, وما يحمله من غباء, يقول الطّالب (إبراهيم) أن الشّيخ كان ينفر ويسخر من شياطين الملك هؤلاء,دائما وأبدا يقول.. يجب كنس هؤلاء ليسهل الوصول إلى الملك,يجب تطهير هؤلاء الجرذان, قبل صهر الملك يجب إزالة شياطين الإنس,هؤولاء قبل أن يقتلونا,هولاء الخونة هم من عاون (الأمحر) على قتلنا وتعذيبنا,هؤلاء يقتلوننا كلّ يوم وكلّ ساعة لأنّهم معنا وبيننا, يحضرون مجالسنا وموائدنا وموالدنا,ويستعملون لغتنا السّمحة لإيصال أخبار أفراحنا وأتراحنا , وما عظم من شأن قومنا, هؤلاء مشّاؤون بالنميمة وهم منافقى هذا الزّمان!!!! هم,فاقدى الإرادةوالعزّة والعزيمة, يخرّبون الوطن , ويؤرّقون المواطن, ويقدّمون خدمة لا تقدّر بثمن للمغتصب وأعوانه .
يقول الطّالب (إبراهيم) إنّهم ينتظرون القصاص ويومه ليس ببعيد!!
قال الشّيخ: ناديت على أمّى… أمّى أمّى أنا موجود أنا هنا,, أبشرى بالخير, أنا هنا باق بالرّغم من أنف كلّ جائر وغادر,لا تسمعى حديث الأخرس الجبان,خائن الملّة والوطن,,, وهجتُ وتمرّدت ولم أرى فى ذاك الحاجب الكاذب إلا صنفا من الجّن عدوّ البشر !!!! وهاج أيضا الحاجب وأحسّ بالحرج وجرّنى من جلبابى,وحينها وهبنى فاطر الكون خالق البشر, القوّة والعزيمة أزحته من طريقى بقبضة واحدة,ونحن نتعارك وصلت إلى فتحة الحائط ورأيت وجه أمى الصبوح, الّذى أرهقه المشى بالأرجل من وازنتت فى عنسبا… يتدخّل الطّالب (إبراهيم ) بعفويّة ويضيف … رآها الكل فى قرى الصّمود والتضحية ( وازنتت قامبل, وجريش, ومسحليت, وتاجبا,وكميل ومنداد وعنسبا ظبّاب وموشى وشمليوخ وعونا.. يقول الطّالب (إبراهيم): كانت تتندّر وهى تمرّ بالقرى تقول سوف أواجههم بقوّة الواحد الأحد لا يخيفنى صغيرهم ولا يرعبنى كبيرهم, سوف أقول للسجّان إنّه إبنى دخل كرن لينهل من علم شيوخها, ويحفظ كلام الله من أولياء الله فى المدينة, ساقه الرّب القدير لأمر قدّره وفعله, جاء ليتعرّف على إخوته أحرار الوطن… هكذا إلى أن وصلت إلى موقع السجن فى (حلّت عد عقب) للبحث عن فلذّة كبدها ونور عينها الّذى ساقته الأقدار إلى السجن…
وعندما إستشعر(خادم سيّده) الحاجب إنّنى إنتصرت عليه وفضحت كذبه ضربنى بعقب بندقيته ال(إم. وان) على ظهرى,تحمّلت الضربة وأنا أحادث أمى… ولكن عندما ضربنى الثّانية,نظرت إلى أمّى فأشفقت عليها من الحال, ونظرت إلى الحاجب ولكنّى لم أطق رُؤيته وعلا الدمّ قمّة رأسى فنزعت بندقيّته من يديه,ودفعته عنّى بعيدا, فجرّد وسلب من سلاحه وكرامته, الّتى فى الأصل ساقها للمزاد بأفعاله, ولكنّى بكيت بدموع لا ترى,لأنى عذّبت معى أمّى, ورأت موقفا محرجا سوف يظلّ عالقا فى ذهنها لزمن, لم أرده لها ولكنّه القدر!!!!
وهبّ الحاجب الآخر من علوّه لنجدة زميله قائلا بالتقرنية: (أمطأيو إتى برت قدف قبنكا كى عبّى).. والمعنى: سلّمنى السّلاح وإلا سوف تكبر جريمتك.. لم أنوى شرّا!!! ولم أكن مجرما, ولم أقصد إيذاء أحد, بل مظلوما ومسلوبا لحقّى وحقّ بنى وطنى… قلت له إنّ صاحبك جبان وكاذب!!يكذب على مواطنة شريفة قطعت الفيافى والمسافات لتبحث عن إبنها وتطمئنّ عليه فيطردها من باب السّجن,ويكذب بقوله : أننى غير موجود في السّجن !!! أنا لست بمجرم وجبان,ولا أقتل عسكريّا سازجا وسجّان!! ولكن كذب ونفاق صاحبك إضطرّنى للتدخّل!! ثمّ إعتدى علىّ بعقب بندقيته!! ولكن بالرّغم من كلّ شيء,أنا لا أعتدى على أحد إن لم يعتدى علىّ.. وبإمكانك الآن إستلام سلاح صاحبك!!! وأخذ الحاجبان يجذباننى إلى الداخل,, وأنا أقول لا تخافى ولا تخزنى يا أمّى!!! إن الحق سوف يظهر!!!! وإنّ الباطل سوف يُقْبر!!! إنّ الحقّ سوف يظهر!!! وإنّ الباطل سوف يقْبر مرّة وإلى الأبد, سوف تُكْنس كلّ الجرزان,وتطهّر كلّ الجراثيم من خارطة الوطن قريبا!!! قريبا!!! , قريبا!!!!و بإذن الله.
ولكنّ أمّى الّتى أخاف عليها من هبّة النّسيم العليل لرٌقتها, وقفت شامخة صامدة,أمام السجن!!وهنا تراءت لنا والدة الشّيخ أمام باب السّجن !!! تخيّلناها وهى تتحدّى الأوغاد إخوة الثّعابين!!!! وكأنها تريد أن تخيفهم برقّتها وأمومتها ودموعها, لئلا يأزوه فى شيئ!!! تراءت لنا والدة الشيخ حينها وهى تقول لهم الويل لكم!!! الويل لكم!!! إن قام منكم فاسق فأساء إليه!! أو تجرّأ منكم فاجرا فضربه, حينها سوف أبلغ الفرسان فرسان(عد قبّطان, وعد قبرو) وأحرار(أشنبر_ سب مدر) فى وازنْتتْ,ومنادل (عد بولا) فى (حملمالو) وأبطال (الحدارب) فى (باشرى) واسود (عد دبراى) فى( كربا برد)…. إحذركم!!! أحذّركم!!!! إحذرو وحيدى وفريدى لأن له إخوة من رحمى, ومن رحم شريفات القوم و الوطن مثلى, يحملون بنادقا أكبر من بنادقكم, ومدافعا رشّاشة قاتلةو فتّاكة,ويحملون إيمانا قويّا بربّ العزّة خالق الوطن, سوف يهبّون لنجدته من كلّ صوب وجهة,من (حلحل) من (أزرقت) ومن (قزقزا) من (أروتا) من (همبول) من (أدوبحا) ومن (دبر سلا) من (ساوى- إدريس دار) ومن (حشكب) ومن( دقعا وديعوت) و(برعسولى) و(بدّا ) و(دم بلاس) و (حمبرتى,ووكّى) ومن كل مكان فى وطن الأحرار(إرتريا) سوف يضربونكم ضربة رجل واحد وأنتم فى جحوركم, فيتناثر دمكم, فى الطّرقات تلعقه القطط والكلاب, إنتبهو وخذو حذركم.
أختى القارئة.. أخى القارئ وتلك كانت حكاية القاضى والقائد (مرانت) مع سنة أولى سجن فى حبّ الوطن.. وحتّى نلتقى فى سنوات سجنه الباقية. وفيها مقابلتين مع إثنين من رفاق الشّيخ فى السّجن لك الشّكر على المتابعة ثمّ السلام والإحترام.
اللهم فرج عن شيخنا مرانت وبقية علمائنا وقضاتنا الأكارم
ردحذف