الثلاثاء، 5 أبريل 2011

عاطفة أبوية تتدفق أنهارا من شعرا


بسم الله الرحمن الرحيم

نشأت في بيئة إشتهر أهلها بحب الشعر وعشقه والهيام به ، وتطارحه ، والتسامر به ، صحيح لم تكن اللغة عربية صرفة ، بل هي ( لهجة خليط من العربية  واللغة الجئزية القديمة التي كان يتحدث بها سكان جنوب الجزيرة العربية ، وتسمى هذه اللغة اليوم ( التقرايت ) ويتكلمها قطاع عريض من سكان السودان وارتريا ، حيث تمتد مساحتها من القضارق وعبر بورتسودان الي الساحل الأرتري في شواطئ مصوع  وتتربع على مرتفعات الحباب والماريا وتتوغل بمحاذاة نهر عنسبا حيث وجدت لها فى  قرية ( وازنتت ) متحدثين من الطراز الفريد ،وأنا لم افرد هذه المساحة لنقل أشعارهم ، وتسليط الضوء على تراثهم ، ولكن سطرت هذه الكلمات لأستدرج معي القارئ ليغوص فى أعماق مشاعري التى انفعلت بقصيدة ، نسجت كلماتها في لبنان ، و طرزت بأنامل شاعر حاذق أنجبته سوريا الأمجاد والخيرات،  إنه شاعر الإيمانيات ، والوجدانيات ، شاعر الإنسانية ، شاعر الأبوة والحنان. وسوف ننطلق معا في صحبتة وما اجملها من صحبة !! سوف نصحب القيم ، والأخلاق ، والأبوة ، والحنان ، والمشاعر ، والقوة، والشجاعة . شاعرملتزم نظر الى حال أمته فراى فيها المكلوم، والمظلوم، والمشرد، والتائه ، وراى شعراء زمانه، من همه القوام النحيف ؛ واللهو الرخيص؛فأعرض عن هبلهم وخبلهم ، وميوعة كلماتهم ، وضياع عباراتهم ، وصياعة أخلاقهم ، فغرد فوق التلال النبيلة ، وصعد فوق الروابي السامقة ، وحرك أنياب كلماته ، وهزَ جدارها ، وضغضغ مشاعرها ، فتفتقت كلماته عن نداوة لا تنضب ، وعن فكر لا يشرد ، وعن إستقامة لا تعوج،وعن ثبات لا يتزعزع .
مع متعة الشعر وحنان الأبوة :
وأظن لو كان الأميري ينتمي الى أمة غير أمته هذه ، لكانت قصيدته هذه اليوم تدخل في مناهج التعليم ، وتطرز بها دواوين الأشعار العالمية ، وكنا نحن أول من يترجمها ، ويعقد لها الندوات ، والسمنارات ، ولكن حسبه أن الأفكار لاتموت ، وأنَ الخير لا يذوب ولا يتبخر ، وأن َ المشاعر سوف تظل ينابيع من الخيرتغذي جفاف القلوب ، ومشاعل من النور تضيئ دروب الظلام .
العاطفة الحارة :
عندما قرأت هذه القصيدة وأنا طالب في المرحلة المتوسطة ، انفعلت بها انفعالا يصعب وصفه ، وإعتقدتُ من غير أن اسال أن الشاعر قد مات أبنائه ، ولذلك تدفق بكل هذه المشاعر التلقائية والمعبرة عن حنان الأبوة ، لكن كانت المفاجئة  بل الإعجاب بالقصيدة أكبر عندما علمت أن الشاعر نظم القصيدة عندما شرع أبناؤه بالسفر من منتجع ( قرنايل ) في لبنان الى سوريا العريقة.
مع الأميرالأميري :
يقول في مطلع قصيدته :أين الضجيج العذب والشغب ؟ كل الآباء يعتبرون ضجيج الأطفال أمرا مزعجا ، ومنقصا للراحة ، لكنه رحمه الله يجد فيه المتعة وراحة البال ، وليس يضيق صدره ابدا أن يشوب التدارس وهو امر يتطلب الجدية والهدوء أن يشوبه اللعب والمزاح ، وهو معجب أشد الإعجاب بتوقد الأطفال ، وعبثهم الممتع حتى لو كان الثمن ، تمزيق الكتب ، وتلطيخ الدمي ، يشتاق لدموعهم، وحرقتهم ، وبريق اسنانهم ، يشتاق لإمتطائهم ظهره ورقبته ، يشتاق لقطعهم عليه راحته ، يشتاق لندائهم المحبب ( بابا) يفتقدهم ، يستوحش لفقدهم .
وكأنما الصمت الذي هبطت  ***   أثقاله في الدار إذ غربوا .
أعتقد أن كل أب يشارك أبنائه يومياتهم الحياتية تكون مفارقتهم أصعب عليه من فراق روحه ، ويتملكه شعور الأميري ، واعتقد أن اثقل وقت يمكن أن يجلسه الإنسان في بيته ، هو عندما يعود اليه بعد مغادرة الأبناء وفلذات الأكباد ، تحس أن صدى أصواتهم ما يزال يتردد في جنبات الدار ، وأنفاسهم الحارة ما زالت تنبض بالروح في كل ردهة من ردهاته ،كل شيئ يذكرك بهم ، فتوق الشمس من النافذة ، وغروبها من النافذة الأخرى ، مراتعهم ، مرابضهم ، ساحات معاركهم ، أكوابهم ، مجالسهم ، مقالبهم،  ضحكاتهم ، دموعهم ، وثباتهم ، إنقلاباتهم ، رائحة عرقهم ،كما قال الأميري.
إني أراهم أينما التفتت     ***     نفسي وقد سكنوا ، وقد وثبوا.
وإليكم  هذه الرائعة من روائع البيان :
أين الضجيج العذب والشغب
أين التدارس شابه اللعب؟
أين الطفولة في توقدها
أين الدمى في الأرض والكتب؟
اين التشاكس دونما غرض
أين التشاكي ماله سبب؟
أين التباكي والتضاحك في
وقت معا ، والحزن والطرب؟
أين التسابق في مجاورتي
شغفا إذا أكلوا وإن شربوا؟
يتزاحمون على مجالستي
والقرب مني حيثما انقلبوا؟
يتوجهون بسوق فطرتهم
نحوي إذا رهبوا وإن رغبوا
فنشيدهم: (بابا) إذا فرحوا
ووعيدهم: (بابا) إذا غضبوا
وهتافهم: (بابا) إذا ابتعدوا
ونجيهم: (بابا) إذا اقتربوا
بالأمس كانوا ملء منزلنا
واليوم، ويح اليوم قد ذهبوا
وكأنما الصمت الذي هبطت
أثقاله في الدار إذ غربوا
إغفاءة المحموم هدأتها
فيها يشيع الهم والتعب
ذهبوا ، أجل ذهبوا ،ومسكنهم
في القلب ، ما شطوا وما قربوا
إني أراهم أينما التفتت
نفسي وقد سكنوا ، وقد وثبوا
وأحس في خلدي تلاعبهم
في الدار ليس ينالهم نصب
وبريق أعينهم ، إذا ظفروا
ودموع حرقتهم إذا غلبوا
في كل ركن منهم أثر
وبكل زاوية لهم صخب
في النافذات زجاجها حطموا
في الحائط المدهون قد ثقبوا
في الباب قد كسروا مزالجه
وعليه قد رسموا وقد كتبوا
في الصحن فيه بعض ما أكلوا
في علبة الحلوى التي نهبوا
في الشطر من تفاحة قضموا
في فضلة الماء التي سكبوا
إني أراهم حيثما اتجهت
عيني كأسراب القطا سربوا
بالأمس في (قرنايل ) نزلوا
واليوم قد ضمتهم ( حلب)
دمعي الذي كتمته جلدا
لما تباكوا عندما ركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا
من أضلعي قلبا بهم يجب
ألفيتي كالطفل عاطفة
فإذا به كالغيث ينسكب
قد يعجب العذال من رجل
يبكي ، ولو لم أبكِ فالعجب
هيهات ما كل البكا خور
إني وبي عزم الرجال أب
رحم الله بهاء الدين الأميري ، فإن كنت قد بكيت لفراق  فلذات كبدك ، فقد علمتنا حب الأبناء .
الأرتريون والعشق الفريد :
لقد باحت قريحة شعراء ( التجري ) بقصائد كثيرة حول حب الأبناء ، وكذلك بلغاتنا الأخرى ، لكن ظل هذا الشعر حتي الآن حبيس الصدور ، تتناقله الشفاه ، وتحويه الذاكرة ، ليس  في هذا عيب ولا تقصير ، ولكن ظروفنا هي التي حكمت علينا  بعدم توثيق تراثنا ، والآن مع التقدم العلمي ، وإتساع رقعة الباحثين ، والدارسين ، يكاد يكون الحفاظ على التراث فرضا لازما ،وقد يفاجئ القارئ إن بحت بقناعة طليقة عن قيود الأسرار، بأنَ الشعراء الأرتريين باللغة العربية ، يكاد عددهم يناظر شعراء أي دولة عربية، وأنا استمعت لعدد كبير منهم ، أمثال الشاعر الكبير / حسين موسى حسين ، شقيق  الشاعر / محمد الحاج موسى . والأخ حسين ينام فوق كنوز من الشعر في شتى المجالات ، ومن يجهل أدحنة / وبيان ، والقائمة كبيرة ، وقد تابعنا في المنتديات شعراء بكل اللغات الأرترية ، وعلى رأسهم الأخ / موسى ضرار ، وغيره الكثير.
دروس من عمر بهاء الدين الأميري :
لو كان أي حاكم في ارض الله الواسعة ، يملك عاطفة الأميري ، لكان أكبر همه الحفاظ على حياة الطفولة ، وأظن نحن في حاجة ماسة لغرس بزور الحب . والأدب الملتزم ، والشعر الهادف هو  أحد أكبر الموجهات والمؤثرات في حياة الشعوب ، ينبغى من شعراء أرتريا وأدباؤها الأفذاذ ألا يواروا إنتاجهم معهم  في نعوش الإهمال .
محمد جمعة ابو الرشيد .
آخر تحديث: الأربعاء, 01 ديسمبر 2010 00:21
 

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة لمدونة . 2013