الأربعاء، 15 مارس 2017

نحنُ وهُمْ

نحنُ وهُمْ


قبل هجرتي إلى أروبا كانت قد تكونت عندي صورة نمطية، وهي أنَّ الإنسان الأروربي شخص متحرر عن أي قيم أخلاقية، وتعاليم ربانية، وبالتالي عاهدتُ نفسي أن أتصَبَّرَ كصبرِ القابض على الجمر، ولكن أعتقد أنَّ تجريدنا الكامل لهم عن ذلك ربما غير دقيق، وأنا اقول هذا من خلال تجربة عشرين عاما عايشتُ فيها كل الأصناف، والطوائف، والأديان، وسوف أتناول في هذه المقالة نموذجين فقط يدلَّانِ عن كيفية تربية أبنائهم، وأتناول في مقالة قادمة بإذن الله ( التربية الأخلاقية عندهم).

التعليمُ في أروبا يلعب دورا كبيرا في تشكيل شخصية الإنسان العلمية والتربوية، وسوف أكتفي  بسوق مثالين إثنين فقط وكما يقال: بالمثال يتضح الحال.

المثال الأول: إبني الذي كان يدرسُ في الصف الخامس الإبتدائي أحضَرَ معهُ رسالة من إدارة المدرَسَة تطلبُ فيها من أولياء الأمور الحضورَ في تمام الساعة الخامسة مساء يوم الأربعاء وذلك لمناقشة قضية محددة ، وسوف يستمر اللقاء ساعة ونصف، وكنت أحرص الناس على الحضور قبل الوقت ربما لكوني كنت ثانيَ إثنينِ من المسلمين، وقد وجدتُ المدير يستقبل أولياء الأمور عند مدخل المدرسة، ومعه مُدَرِّسَة تصطحبُ الضيفَ إلى مجلسهِ في القاعة، وبقيَّةُ المعلمين في داخل القاعة يعطي كل واحد منهم ملفا لوليِّ الأمر يحتوي على أعمال الطلاب، ومنهم من يرشد الآباءَ إلى مكان القهوة والشاي والبسكوتات، وكان كل شيئ مرتب كما ينبغي أن يكون؛ وقبل بداية الوقت بثلاث دقائق إعتلي المدرسُ المكلف بالبرنامج المنصَّةَ، وقد أخذ الجميع مقعده.

 بدء كلمته بالترحيب بالآباء والمعلمين، ثمَّ دخلَ في الموضوع مباشرةً وقال:  نشكرلكم حضوركم اللقاء، وقد دعوناكم  لإطلاعكم على جهود أبنائكم، وأحببنا أن نتكلم معكم بشكل جماعي لأن العمل والإنجاز كان جهدا طلابيا مشتركا، حيث شارك جميع طلاب الصف الخامس في برنامج ( التعرف على مرافق النقل وكيفية عملها) وذكر أنهم بدؤوا البرنامج قبل شهرين حيث قام كل معلم بشرح مبسط لطلابه عن وسائل النقل البرية، والبحرية، والجوية، ثم أتبعوا ذلك بالرسومات الجميلة، وأشار علي بعض النماذج المعلقة منها في الحائط، وكانت بقية الرسومات والصور في ملف الطلاب، وذكر أنهم  بدؤوا النشاط بركوب الدراجات، وكيفية استخدامها الإستخدام السليم، والإلتزام بالسير بالطرق المحددة، والوقوف في الأماكن المخصصة، وشكر إدارة المطار، والقطارات، والموانئ البحرية، الذين خصصوا يوما لزيارتهم، حيث استقبلهم المدراء والموظفون، وشرحوا لهم بالتفصيل عن كيفية عمل هذه المرافق، والقوانين التي ينبغي أن يلتزم بها كل مواطن، وكان شيئ مثير للطلاب أن يصعدوا إلى قمرة القيادة ويستقبلهم القائد ويشرح لهم بنفسه، ويستمع لإستفساراتهم، ومن ثم توجه بالشكر إلى رجل المرور الذي كان حاضرا معنا، وطلب منه أن يتقدم ويشرح للآباء العمل الرائع الذي قام به مع الطلاب والمدرسين. تحدث الشرطي عشرين دقيقة شكر فيها إدارة المدرسة، وأولياء الأمور، وذكر أنه رافق الطلاب مع معلميهم إلى إشارات المرور العامة، وشرح لهم كيفية استخدامها، وطلب من أي طالب أن يسجل أي مخالفة يراها من قبل السائقين في الشارع ، ومن ثم أخذ الطلاب إلى شارع ضيق، وشرح لهم خطورة عدم الإنتبهاه، أولعب الكرة في الساحات غير المخصصة للعب، وقد إستوعب الطلاب كل ما شرح لهم، وطلب من أولياء الأمور الإلتزام الدقيق بكل القوانين الخاصة بالسلامة والحفاظ على أرواح ابنائهم، وأهمها: عدم السرعة، وربط الأحزمة، وعدم القيادة بعد تناول الكحوليات مباشرة، أو استخدام الهواتف، وقام بعرض فلم قصير يتناول حوادث ضخمة حدثت بسبب التهاون في قانون السلامة ، وذكر أنهم مستعدون للتعاون بإزالة أو إصلاح أيّ شيئ يتعلق بمحيط المدرسة من أجل سلامة الطلاب، و من ثم تحدث مقدم البرنامج وقال: نحن عرَّفنا الطلاب أن إحترام إشارات المرور واجب أخلاقي ومطلب قانوني، وقد دعوناكم حتي نطلعكم على ما قمنا به من توجيه الأبناء، وحتى لا يتم تناقض أو تشويش في ذهن الأطفال أحببنا أن تكونوا غاية في الحرص فى الإلتزام بقواعد المرور، وأن تأكدوا على ابنائكم أهمية الموضوع.

 ويسعدني أن أحكي لكم ماحدث لي مع أبنائي عندما كنت في زيارة شقيقي المقيم في دولة عربية، وكُنَّا كُلَّما نركب السيارة معه نقومُ أنا وابنائي بربط الأحزمة، وكانوا يُلِحُّون على عمِّهم أن يفعل ذلك، ولكنَّه كان ينسى ذلك في كل مرَّة، وفي يوم من الأيام أوقفنا رجل المرور فجأة ثم نظر إلينا وطلب من شقيقي أن يوقف السيارة جانبا ويتبعه إلى حيث سيارة الشرطة، ورجع إلينا وفي يده غرامة مخالفة، فبدء أبنائي يقولون لعمِّهِم: ما قلنا لك افضل أن تربط الحزام؟

والدرس الذي تعلمته من هذا اللقاء هو إشراك البيت في العملية التربوية والتعليمية، وغرس الضوابط والقيم المجتمعية في وقت مبكر من العمر بأسلوب ماتع وجذَّاب حيث يشعر أنه في رحلة علمية ممتعة، ويطلع على معلومات حتى نحن الكبار غير متاحة لنا ، فأنا مثلا في حياتي لم أدخل إلى قمرة الطيارة، ولا الباخرة، ولا القطار.

المثال الثاني: عندما كان إبني في السنة الأولى الإبتدائية، طلبت منا إدارة المدرسة التفضل بالمشاركة في إجتماع عام يعقد مساء يوم الجمعة، وإنَّ الإجتماع سوف يستمر ثلاث ساعات تتخله راحة لمدة عشر دقايق، وطلبوا منا إحضار أعمال أبنائنا اليومية، وبما أن معظمها رسومات لم أكن أحتفظت بها، ووجدت القليل منها بين ممزق، ومتسخ، وكانت المفاجئة لي أنَّ كلَّ وليُّ أمر حضر ومعه ملفٌ مرتب، ونظيف، ويحتوي على جميع أعمال الطالب؛ وكان عزائي أنَّ كلَّ منْ على شاكلتي من المهاجرين جاء خالي اليدين.
ولن أكرر ماذكرته من براعة الإستقبال ودِقَّةِ الترتيب، وحسن الضيافة، مع أن المدرستين مختلفتين. قال لنا مدير المدرسة: أنتم اليوم طلاب عندنا لمدة ثلاث ساعات! والغرض من الموضوع أحببنا أن تطلعوا على جهود المعلمين، ومدى الإرهاق والجهد الذي يبذله أبنائكم، وحتي لا يقلل بعضكم جهود الأبناء ويعتبره مجرد رسومات مسلية، وطلب منَّا أن نتوجه بعد سماع الجرس إلى فصل ابنائنا، والجلوس على كراسيهم، وطلب منا المعلِّمْ أن نرسم المدرسة، وقال متبسما: لا تقلدوا رسومات أبنائكم فإنَّهم سوف يدققون على رسوماتكم أكثر مما تفعلون أنتم، وأريد غدا أن يفخر بكم أبناؤكم عندما يطلعون على رسوماتكم الرائعة وذكر أن الوقت المحدد لهذه الفقرة عشرون دقيقة فقط،ثم طلب منا بعد ذلك إنجاز أعمال جماعية بعد أن قسمنا إلى مجموعات صغيرة، ورأيت الآباء المهاجرين في معانآة شديدة، لدرجة أن أخ أفغاني تبرم جدا، وإنصرف بحجة أنه ليس طفل حتي يضيع وقته فى امور تافهة!

وقد تعلمت من هذا الدرس أن إبني فعلا يمكن أن يتفوق علىَّ وهو في عمر خمس سنوات، وأدركت أن التعليم والتربية السليمة لا تتم إلا بتقدير جهود أطفالنا، ومشاركتهم في أعمالهم اليومية.
وأعتقد نحن في حاجة ماسَّة إلى التعليم الجيد، والبيت المتابع، والمدرسة المتفاعلة، وا لأهم من ذلك أن نرفع من شأن المعلم ماديا ومعنويا، وينبغي أن يتم تعيين أكفأ المعلمين في مراحل الأساس وبأجور تكاد تقترب من أجور الوزراء، وأن نسن قوانين واضحة لحماية الطفل حتي يتربي بثقة وأمان وقلبه مفعم بحب مجتمعه ووطنه.


محمد جمعة أبو الرشيد

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة لمدونة . 2013