الخميس، 10 نوفمبر 2011

في الجدل حول المدنية والدينية





طارق البشري
أقصد من ذلك أنه من غير المجدي لنا بوصفنا جماعة وطنية أن نتحارب هكذا في إطار كليات مجردة تماما لا تتحدث إلا عن «المدنية» و«الدينية»، وأنه يتعين أن نتجاوز هذا المستوى التجريدي إلى مستويات أقرب إلى التفريعات المتصلة بالشئون والمسائل الحياتية، وأن نستفيد من التفريعات الخاصة بالمرجعيات السائدة في مجال الحقوق العينية الملموسة أو ذات المساس بالأوضاع المعيشية..

الشاعر العظيم المبدع «جلال الدين الرومي» له صورة شعرية أحسبها تصلح وصفا رمزيا لما يجري الآن من حوار بيننا علي مدي الشهور السبعة الأخيرة، فهو يحكي في ديوانه «المثنوي» عن قصة أستاذ طلب من تلميذه «الأحول» أن يأتي له بإبريق الماء الخاص به، ولكن التلميذ الأحول نظر إلي الإبريق فصوّره الحول له أنه إبريقان اثنان، واحتار في اختيار أيهما يحمل، ثم هداه فكره أن يكسر أحدهما ويأخذ الآخر، فلما كسر أحد الإبريقين لم يجد الآخر.

ويبدو لي أن هذا تقريبا ما نصنعه الآن في حديثنا العجيب عن مدنية الدولة أو دينية الدولة، ونتساءل ونختلف في دولة دينية أو مدنية، ونظنهما دولتين نختار بينهما، بينما هما شيء واحد، ونحن إذا حطمنا ما نظنه واحدة منهما فلن نجد الأخرى.

إن «المدنية» في الاستخدام العادي لها كانت تقوم في مواجهة «العسكرية»، وكان القانون «المدني» يقوم في مواجهة القانون الجنائي والقانون الإداري. ولكنها في الاستخدام السائد المقصود في الحوار الدائر الآن تقوم في مواجهة «الدينية».

وهي في هذا الاستخدام الجاري الآن مقصود بها التنظيم المؤسسي للدولة وللمجتمع. و«الدينية» في هذا التصور يكون مقصودا بها المرجعية الفكرية والثقافية العامة التي تقوم وراء هذا التنظيم المؤسسي.

الدولة مؤسسة، وأي مؤسسة هي ترتيب وتنظيم لأفراد من الناس على أوضاع تمكنهم من القيام المشترك بالأعمال، وذلك بالتعاون والتبادل بين بعضهم البعض على أسس نظامية مقدرة تكفل انتظام هذا الاشتراك واطراده.

ولابد لهذا التنظيم أن يقوم على أهداف محددة تبين له وظائفه وأنواع ما يؤدي من عمل. والدولة هي مؤسسة من المؤسسات، ولكنها تشكيل ذو سلطة تفرض بها بأسها علي أفراد المجتمع وجماعاته لتنظيم حركته وتفعيل نشاطه.

ومن حيث هي سلطة تمارس على أفراد المجتمع وجماعاته، لابد لها من مرجعية فكرية وثقافية، تسوغ لها أن تأمر وتنهي وتهيمن على حركة المجتمع، مرجعية تُشَرّع لها هذه الحاكمية.

والإنسان والناس جميعا، هم من يمارسون العمل داخل مؤسسات الدولة، وهم أيضا من يمارس عمل الدولة وتطبق سلطاتها عليهم بوصفهم محكومين لها.

ولابد من صيغة ثقافية عامة تجمع هؤلاء الناس الحكام مع هؤلاء الناس المحكومين، وإلا كان فعل الدولة عدوانا محضا، لابد من شرعية تجمع بين الجانبين، وإلا لم يفترق عمل الدولة عن فعل المغتصبين.

فإن أحد تعريفات الدولة أو أحد خصائصها هو ما يذكره العالم المعروف «ماكس فيبر»، من أنها هي من يملك وسائل العنف المشروع، فالمشروعية هنا هي المرجعية الثقافية.

أو بعبارة أدق أنها مجموعة من المبادئ والقيم تؤول في التحليل إلي مرجعية ثقافية معينة، أي مورد أو مصدر ثقافي معين. والمرجعية والمصدرية هما في ظني أمر واحد، لأن ما تصدر عنه في البداية لنفرع عنه التفاريع، هو ما نرجع إليه في النهاية لنؤصل هذه التفاريع.

إن الإنسان كيان واحد بما يحمل من معتقدات وبما ينصاع إليه في سلوكه من قيم ومبادئ، وبما يتراضي علي الانتظام فيه من أوضاع تعامل ونظم وأساليب عمل وعلاقات مع غيره من البشر.

والأصول العامة المحيطة بكل ذلك هي ما يشار إليه بما يسمي المرجعية أو المصدرية، ولا توجد دولة ولا نظام ولا فرد ولا جماعة إلا لها مرجعية ما، في تعاملاتها ونظمها وعلاقاتها، فمثلا صدر في فرنسا قانون يفرض منع الحجاب علي المرأة في ظهورها العام، وكان ذلك طبعا يستند إلى مرجعية سائدة في المجتمع الفرنسي.

وقد واجهها البعض بأن الأصل هو الحرية، وهي مواجهة جدلية بين أصلين مرجعيين انتهت بتوافق بينهما علي نحو ما. والمهم أنه يمكن القول إنه لا يوجد إدراك بشري بغير أن يكون له أساس مرجعي ثقافي.

المرجعية إذن هي مفهوم فكري ثقافي، يتعلق بالأصول الفكرية المرجوع إليها في التقدير النهائي لبيان ما هو الصواب وما هو الخطأ، أو ما هو الصحيح وما هو الباطل الفاسد، أو ما كان يعبر عنه قديما علماء الكلام بقولهم، ما هو الحسن وما هو القبيح، وذلك في تصرفات الناس وعلاقاتهم مع بعضهم البعض.

* وهي على سبيل البيان، أولا الأصول الفكرية والثقافة العامة التي تؤمن بها الجماعة، التي تشكل قوة التماسك الأساسية لها بوصفها البشري.

* وهي ثانيا الأصول الفكرية والثقافية العامة التي تصدر عنها مبادئ المشروعية في المجتمع، سواء بالنسبة للأوامر والنواهي التي يلتزمون بها في علاقاتهم مع بعضهم البعض، أو بالنسبة لأحكام التعامل التي يتداولونها ويتبادلونها بينهم.

* وهي ثالثا الأصول الفكرية والثقافية العامة التي تتشكل منها هياكل النظم السياسية والاجتماعية المشخصة للجماعة والمنظمة لها بوصفها الاجتماعي والسياسي، سواء الجماعة السياسية العامة أو الجماعات الفرعية التي يتكون منها المجتمع من أسر وعشائر وقبائل وطوائف وحرف ومهن، وهي المنظمة لأنماط العلاقات الاجتماعية السائدة في كل من ذلك.

المرجعية هي تشكل ثقافي يجتمع عليه الناس، والجماعة من الناس تحتاج إلي تنظيم، والتنظيم يقرر ضوابط للحركة والتزامات متبادلة.

والمرجعية دائما تعكس الثقافة السائدة في المجتمع بين الجماعة البشرية، والمعول عليه في تكشف المرجعية السائدة بين الناس في الجماعة المعنية، هو بالواقع الفعلي لحقيقة ما ينتشر لدى الناس ويسود من أصول فكرية وثقافية ومعتقدات ذائعة بين الناس وتتغلغل في نفوسهم وعقولهم بما يشكل دوافعهم وكوابحهم الذاتية والجماعية، وهي كشأن اللغة عنصر مهم وحاسم تنبني به قوة التماس لدي الجماعة البشرية المعنية.

وهي كشأن اللغة في الجماعة، لا تختارها من بدائل تقف على ذات المستوى من الأفضلية والترجيح، وإنما هي تحيط بالجماعة بوصفها من أسس نسيجها المعنوي، وهي قد تتطور عبر المراحل التاريخية وقد تتغير في الكثير من مفرداتها بحكم التبادلات الثقافية مع الجماعات الأخرى، فيدخلها جديد ويزوى منها قديم، ولكنها كشأن اللغة أيضا لا توضع موضع الاختيارات الإرادية مع غيرها من الثقافات كشأن السلع التي تعرض في واجهات المحال التجارية.

وإذا سأل سائل نفسه: ما أساس التزامي بقرار للدولة، أو بحكم صدر علي من محكمة، أو بأمر صدر به قانون معين، فيقال له إنه الدستور، فيرد وما أساس التزامي بنص الدستور، فلا تبقي إجابة عنه إلا أن الأساس هو موافقة الجماعة البشرية التي يحيي السائل بينها، علي هذا التنظيم الذي صدر بموجبه هذا أمر الالتزام المذكور، وهذه الموافقة الجمعية لا ترد إلا بموجب التشكل الثقافي الذي يسود في هذه الجماعة، وبه يتشكل نظرها لما هو الخير وما هو الشر وما الحسن وما القبيح.

وإذا نظرنا في المرجعية السائدة في الغرب، نلحظ أن ثمة حديثا عما يسمى «القانون الطبيعي»، وأنه الأصل المرجوع إليه أساسا للإجابة عن الأسئلة السابقة، ويبقى السؤال عما هو القانون الطبيعي، ونجد في الكتابات الغربية أنهم يعرفونه مثلا بأنه «مجموعة المبادئ الأصلية الأزلية، هو القيم والمبادئ والأصول التي يتضمنها الضمير الإنساني أو التي توصي بها الفطرة، وهو المبادئ المتضمنة في الجماعة البشرية»، وقد ساد هذا المفهوم فحل محل المرجعية الكنسية الدينية التي كانت سائدة قبله هناك في القرون الوسطي.

وفي علوم القانون يقابلنا مفهوم مهم مؤثر جدا في تصرفات المتعاملين، وهو مفهوم «النظام العام»، الذي يمكن به إبطال أي تصرف يتراضي عليه المتعاملون مع بعضهم البعض، ومفهوم النظام العام هو ما يمثل مجموعة المبادئ والقيم التي تسود الجماعة في مرحلة تاريخية معينة.

وهذان المفهومان عن القانون الطبيعي أو النظام العام وما يماثلهما فيهما من التجريد ما يمكن من تطبيقات شديدة التعارض في المبادئ الإنسانية التي يمكن استخلاصها، وهي كلها من صنع الإنسان الذي يدعي أنه يملك الحقيقة المطلقة، رغم أن الإنسان دائما ابن وقت معين ومرحلة تاريخية معينة ونوع جماعة سياسية تسكن إقليما معينا، كما أنه ابن مصالح قد تثقل عليه فكره.

ويكفي القول إن هذه المفاهيم شديدة التجريد أخرجت النقائص من النظم الاقتصادية، من الرأسمالية إلى الاشتراكية والشيوعية على ما بينها من تضاد، ونقائص من النظم السياسية من الديمقراطية إلى النازية والفاشية على ما بينها من تضاد.

وأنا لا أقصد هنا التمييز والقول بأن ما لدينا خير مما لديهم، بل إن كل ما أقصده هو أن أوضح للقارئ أنه ليس من حق أحد ينتمي إلى أي من هذين المفهومين أو ما يماثلهما من المفاهيم الوضعية أن يتعالى علينا، ولا أن يزعم أنه يملك الحقيقة المطلقة من دوننا، لمجرد أن الغالبية الغالبة من شعبنا تفتش عن مرجعياتها وتعتمدها من داخل تراثها الثقافي، وأن علينا في مواجهة بعضنا البعض أن نتواضع كثيرا، وأن ينظر كل منا للآخر الذي هو منا أيضا في نطاق التمييز بين تفاصيل الأحكام التي يمكن أن تعالج بها أدواء مجتمعاتنا.

وما يتعين الجزم به أنه يستحيل في نشاطنا السياسي والاجتماعي وبناء مؤسساتنا ونظم معاملاتنا، يستحيل أن نجردها من المرجعية الثقافية، كما يستحيل أن تكون هذه المرجعية غير صادرة عن الأصول الثقافية السائدة لدى الجماعة السياسية المعنية.

وأنه بذات القدر من الاستحالة لا يمكن لذوي المرجعية الثقافية المعنية، أيا كانت أن يغفلوا عن الآثار الدنيوية للأفكار والثقافات، لأن المرجعيات الثقافية تتميز بأنها يمكن أن تنحذر منها وتتفرع الحلول المتنوعة المتوافقة لكل عصر ومصر، وأن من يتعمد إغفال الآثار الدنيوية المناسبة لما يحيي فيه من عصر ومصر، إنما يكون ذلك منه موقفا دنيويا مخالفا للمصالح العامة التي تناسب الجماعة المعنية.

وأن الفكر المرجعي المستند إلي الدين، متهم من غير ذويه بأنه ينكر شئون المصالح الدنيوية، وهو اتهام لا يقوم في أساسه ولا لدى الغالبية الغالبة من مفكري هذا المجال، حتى في العصور قبل العصر الحديث.

ونلتقط مثلا حديث العز بن عبدالسلام الذي عاصر بداية عصر المماليك «وهو العصر الذي يسميه البعض عصر التخلف»، يقول «التكاليف كلها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم، والله غني عن عباده ولا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين».

كما نلتقط من حديث الإمام أبي إسحق الشاطبي الذي جاء بعد العز بنحو قرن ونصف القرن في ذات العصر، ما يقول فيه «كل حكم شرعي ليس بخالٍ من حق الله تعالي وهو جهة التعبد، كما أن كل حكم شرعي فيه حق للعباد إما عاجلا أو آجلا، بناء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد».

كما نعرف عن الإمام الطوفي الحنبلي ما مفاده أن النصوص تخصص بالمصالح. وأن ذكر هذه الأمثلة أريد بها الإيضاح أن المرجعية الدينية لدي المؤمنين بها ليس فيها الفصل بين صلاح الدنيا والدعوة له وبين العبادة، وأن الإيمان أبدا مقترن بعمل الصالحات.

وأن منا من يستند في مرجعيته عن حقوق الإنسان إلى نص البيان العالمي الصادر من الأمم المتحدة، بأن جميع الناس يولدون أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق، فلماذا لا يقبل مواطن يقول ذات المعنى مستندا إلى نص عبارة عمر بن الخطاب، ولماذا تقوم الفرقة بين الاثنين، وكذلك بالنسبة للقول عن حرية الفكر والاعتقاد وأنه لا إكراه في الدين، وبالنسبة للوفاء بالعهود.

وهكذا. أنا أقصد من ذلك أنه من غير المجدي لنا بوصفنا جماعة وطنية أن نتحارب هكذا في إطار كليات مجردة تماما لا تتحدث إلا عن «المدنية» و«الدينية»، وأنه يتعين أن نتجاوز هذا المستوى التجريدي إلى مستويات أقرب إلى التفريعات المتصلة بالشئون والمسائل الحياتية، وأن نستفيد من التفريعات الخاصة بالمرجعيات السائدة في مجال الحقوق العينية الملموسة أو ذات المساس بالأوضاع المعيشية.

إن «المرجعية» بوصفها مفهوما ثقافيا تفرض نفسها شئنا أم أبينا على جميع المؤسسات والسلطات وقيم السلوك ونظم المعاملات، وهي لا نختارها من مرجعيات عديدة معروضة علينا، وإنما هي ما يتعلق بالشأن الثقافي الحاصل وبالواقع الفكري السائد لدى الجمهرة الغالبة من المواطنين في كل عصر ومصر، هي ما يؤمن به الشعب في عمومه ويتخلل العقول والأذهان في الحياة البشرية الوطنية، وهي ما يحفظ قوة التماسك لهذه الجماعة المعنية.

وإذا كانت «المدنية» في الاستخدام الجاري الآن مقصود بها لدى من يستخدمونها ويدعون إليها الاهتمام بالصالح الدنيوي للجماعة الوطنية، فهي طبعا لابد منها لانتظام الجماعة، وإذا كانت «الدينية» في الاستخدام الجاري الآن تعني الأصول الثقافية المرجوع إليها مما يسود لدى الجماعة البشرية الوطنية ويحفظ لها قوة تماسكها، فهي لازمة وضرورية أيضا.

ويكون جهدنا كله لا في إثارة التعارض بينهما، ولكن في استخلاص التوافق بينهما ليصير شيئا واحدا. وعندئذ نفيق من وهم أن إبريق جلال الدين الرومي إبريقان، وننجو من خطر كسر أحدهما فلا يبقي الآخر.

أختم حديثي بقول آخر لهذا الشاعر الكبير، فهو يقول: إن العالم مصنوع من المتناقضات، وأن الحياة تتأتي من السلام بين المتعارضات، وأن الموت يكمن في التحارب بينهما، والحرب المعنية في ظني هي إثارة التنافي بين الظواهر وعدم إنعاش وجوه التفاهم والتآزر.

نقلاً عن مجلة العصر

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة لمدونة . 2013