الثلاثاء، 13 سبتمبر 2011

الحنـــــــــــــــــــــــــين الى الوطـــــــــــــــــــن




مفهوم الوطن والحنين إليه ... رؤية شرعية وواقعية على ضوء النموذج الأرتري
د. حامد محمد إدريس
استهلال :
المعاناة في الوطن أدت بالأرتريين إلى الهجرة عنه التجاء إلى وطن بديل فما رأي الشرع الحنيف في مثل هذه المعاناة و ما تثمره من الهجرة القاسية وهل يلزم الشرع المهاجر واجب العمل لإزالة أسباب المعاناة في الوطن الأصيل وهل يجيز له أن يقطع صلته به مشاعر ودعما وتضحية وحاضرا وتاريخا استغناء بم تحصل له من أنواع النعيم أمنا ورفاهية معيشة ؟ المقال التالي يعالج هذه القضية آخذا النموذج الأرتري مثالا..
الحنين إلى الوطن :
منذ فجرالهجرة الأرترية يوجد أرتريون في شتى بقاع الأرض وجدوا الأمن والأمان والمعيشة الرغيدة فاستقرت أقدامهم في الأرض البديل فهل طاب لهم المقام وانصرفت إليها قلوبهم رضى بالخير الوفير وإعراضا عن الأرض التي لا تزال تطرد أبناءها بسبب الاستعمار الجديد- حكومة الجبهة الشعبية - كما كانت تطرد هم بسبب الاستعمار القديم- النظام الإثيوبي- .
رفقا بقلبك إن كنت مهاجرا خارج وطنك فالقلب يضطرب إن عنت له الذكرى وتعرض للإثارة حتى لو كان الوطن البديل يوفر من أسباب المعيشة والهناء المادي ما لم يتوفر في الوطن الأصلي مصداق ذلك ما
روي أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تزوج امرءة تسمى ميسون من أهل البادية وكانت ذات جمال باهر فأعجب بها معاوية وهيأ لها قصراً مشرفاً على حديقة غناء وزينه بأنواع الزخارف ثم سئلت هل رضيت بالوطن الجديد فأنشدت شعرا تقول :
لبيـت تخفـق الأرواح فيـه
أحب إليّ من قصـر منيـف
ولبس عبـاءة وتقـرّ عينـي
أحب إليّ من لبس الشفـوف
وأكل كسيرة فـي كسر بيتـي
أحب إليّ من أكـل الرغيـف
وأصوات الريـاح بكـل فـج
أحب إلى من نقـر الدفـوف
وكلب ينبـح الطـراق دونـي
أحب إلـي مـن قـط أليـف
وبكر يتبع الأظعـان صعـب
أحب الي مـن بعـل زفـوف
وخرق من بني عمي نحيـف
أحب الي من علـج عنـوف
خشونة عيشتي في البدو أشهى
الي نفسي من العيش الطريف
فما أبغي سوى وطنـي بديـلا
وماأبهاه مـن وطـن شريـف
مشهد يتكرر:
ما نتابعه اليوم في مختلف ديار الغربة – استراليا ولندن وأمريكا .. الخ - من مظاهرات واحتياجات متكررة يقوم بها مهاجرون أرتريون شبيه بتلك القصة وهي فطرة تنزع إلى الوطن الأصل تذكر به دوما وتجتهد للعودة إليه وتظل غير راضية عن كل خير تجده في ديار الغربة حتى تتمكن من العودة إلى الوطن الاصيل الذي تعتبره لوحة مشرقة تتبدى في أرضه ترابا وأشجارا وأنهارا وثروات كما تتبدى في سكانه أنسابا وأحسابا وأصهارا وجيرة وفي مساكنه مدنا وقرى وأحياءا وشوراع .. حتى جدار البيت له طعم يستحق اشتياق البعيد وتقبيل القريب ( أقبل ذا الجدارا وذا الجدارا) استجابة لمشاعر نبيلة تجاه ذكريات الأحبة والحياة والتاريخ . وبناء على ذلك يظل المهاجرون الأرتريون يحنون إلى الوطن الاصيل على الرغم من علمهم أن ما لديهم من الحياة المادية غير متوفرفيه إنه السر الخفي الذي يجعل الإنسان ينجذب إلى قطعة أرض اتخذها أهلوه لأول مرة وطنا أصيلا دون سائر الأرض فهل الإسلام يعطي تقديرا للعلاقة بين الإنسان وبين وطنه الاصلي
تعريف الوطن في الشرع :
يطلق الوطن شرعا وعرفا على الأرض الأصلية التي يرتبط بها الإنسان ميلادا و تاريخا وأهلا وعشيرة ومعيشة ولهذا تصبح محل رضى بالنسبة له وفخر وانتماء إلى درجة يحس فيها أنه جزء من تلك الأرض موتا وحياة يلزمه ألا يفرط فيما هو بضعة منه يورثه السابق للاحق وتتناقل الأجيال الإفادة منه والانتفاع بما يضمه من أرض وسماء وكنوز ويعد مالا غير قابل للتقدير بالأثمان من شدة ما هو عزيز وباق إلى قيام الساعة محتاج إليه أبناء الغد مثل حاجة أبناء اليوم ولهذا يصبح فراقه مرا على النفس تتأبى أن تتجرعه كما تتمنع أن تستقبل الموت مستسلمة .
الوطن صنو الروح :
تحدث القرآن الكريم عن هذه الحقيقة في سياق حديثه عن بني إسرائيل فقال تعالى :
( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَاركُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُمْ... (66 سورة النساء)
فنصت الآية الكريمة على أن قتل النفس والحرمان من الوطن سيان مرارة لا تقبل بها النفس الإنسانية . والديار هي الأوطان سواء كانت أرضا بوارا مسخرة للمراعي أو الزراعة أو كانت عمارا بالبنية التحتية والسكان المعمرين والإسلام يعتبر الخروج عنها مثل قتل النفس أمرا في غاية ا لصعوبة على النفس وهو صفة حميدة جدا لما فيها من التشبث بالحياة التي يوجب الله على الإنسان حمايتها من الهلاك والتشبث بالارض الوطن التي يوجب الله على الإنسان عمارتها وإحياءها وحمايتها إلى درجة أن الموت دفاعا عنها شهادة على اعتبار أنها أغلى ما يملكه الإنسان من مال وهذا يستوجب على كل مواطن أرتري الصمود في وجه الاعتداءات الجارية على وطنه من قبل السلطان الجائر حماية للوطن والتماسا للأجر.
تحريم استلاب الوطن :
وإن من المحرمات انتزاع الوطن من المواطن قسرا ويعد ذلك من أشد أنواع الظلم التي تقع عليه من مستبدين أفرادا محكومين أو سلطانا حاكما وسواء كان هذا الوطن خاصا بفرد ضعيف كأملاك المزراع والمساكن والمراعي أو كان لعدد من المواطنين الذين جمعتهم المصالح فكونوا لأنفسهم وطنا محدود المعالم - دولة أو قرية أو مدينة - يتعرض منهم لخطر الانتزاع على يد الظالمين كما يدل له قوله صلى الله عليه وسلم:
(من ظلم من الأرض شيئا طوقه من سبع أرضين ) وأخرج البخاري قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا عبدالله بن المبارك حدثنا موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين. ويدخل في ذلك ما تقوم به الحكومة الأرترية من انتزاع الأراضي من أصحابها وتوزيعها إلى قوم آخرين غير مستحقين لها أوتهجير المواطنين المسلمين وتسكين غير المسلمين في ديارهم كما يتهدد هذا الوعيد كل من ساند النظام السالب أو استفاد من التوزيع الجائر .
امتلاك الوطن وتنميته :
لكل مواطن قطعة أرض من الوطن الكبير سخرها الله له وربط بها سعادته معيشة واستقرارا ومن قطعة وقطعة ومواطن ومواطن يتكون الوطن الكبير وقد أوجب الله على المواطنين استثمارهذه الأرض - متعاونين - وحمايتها كما جعل التعمير ( الإحياء) والحماية وسيلة امتلاكها وقد دل له ما ورد
عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أحيى أرضا ميتة فهي له ) قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها، قال عروة قضى به عمر رضي الله عنه في خلافته
والقرآن الكريم يعبر عن هذه الحقيقة فمرة ينوه بما وضع فيها من كنوز وما أتاح للإنسان فيها من تمكين :( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ) الأعراف: 10.
ومرة بإشعار الإنسان بأن كل ما في الأرض مخلوق له ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً )ٌ البقرة : 29
ومرة يوجه الإنسان بالحركة الإيجابية في الأرض تعميرا وتنمية واستفادة ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) الملك : 15
ومرة يذكر صورا ذات بهجة للوطن محرضا للمواطن أن يصل بوطنه إليها غرسا وعناية وإنتاجا ( وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ، فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ، وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) الرحمن: 10/11
وذلك بجهده وجهاده حرثا وزرعا وتنمية دون أن تثبط همته حتى لو رأى أنه غير منتفع بما أنتجت يداه في وطنه مصداق ذلك ما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل)، جاء في فيض القدير: "(إن قامت الساعة) أي القيامة، سميت به لوقوعها بغتة، أو لسرعة حسابها، أو لطولها ولأنها عند الله تعالى على طولها كساعة من الساعات عند الخلائق (وفي يد أحدكم) أيها الآدميون (فسيلة) أي نخلة صغيرة، إذ الفسيل صغار النخل (فإن استطاع أن لا يقوم) من محله أي الذي هو جالس فيه (حتى يغرسها فليغرسها) وحماية لتنمية الوطن يسعى الإسلام إلى ترسيخ مبدأ الأمن الشامل بهدف استقرار المواطنين واتجاههم إلى تنمية وطنهم فهذا القرآن الكريم يربط بين الامن والرزق الوفير وهما من مقاصد الشريعة قال تعالى حكاية عن ابراهيم أبي الأنبياء عليه السلام :(وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات) (51).وقد امتن الله على قريش بتوفير نعمتي الأمن من الخوف والرزق الحلال الوفير( (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) كما وجه الله الإنسان المواطن أن يقوم بتنمية ا لوطن على اعتبار أنه بحاجة إلى ذلك للانتفاع به في الدنيا كما يلزمه أن أيبتغي الله فيما آتاه الله والدار الآخرة ((وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [3].
وله الحق أن تصل تنميته للوطن مستوى راقيا جدا من الترف والنعيم الرغيد ما دام قدالتزم بالشرع الحنيف كسبا وانفاقا ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [4].وليس للسلطة الحاكمة الحق في الامتنان على هذا المواطن أو أن تستلب وطنه منه قسرا سواء تمثل على مرعى أو مزرعة أو سكن ..الخ
واجب الدفاع عن الأوطان شرعا :
على المواطن مواجهة السلطة الجائرة التي تستهدف أرضه فقد ربط الإسلام الأوطان بالدين إذ أوجب الدفاع عنها كما أوجب الدفاع عن الدين وعلق التعايش مع ( الآخر) باحترامه لحقوق المسلمين دينا وأرضا وجعل من حق المسلمين محاربة الآخرين المعتدين في حال صدور اعتداء منهم إلى عقيدة المسلمين وأرض المسلمين وليس من الحميد شرعا أن تستقبل بأغصان زيتون وحمامات سلام من يقصد النيل من أرضك أو دينك فمن أراد مصادرة أراضي المسلمين أو قام بتعديلها على غير الوجه الصحيح فعلى المسلم الوقوف في وجهه رفضا ودفاعا حتى لو أدى ذلك إلى حرب فإنها مشروعة على الرغم مما فيها من ضحايا .قال تعالى متحدثا عن شرعية هذه الحرب ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ....( 191 ) أمر من الله بقتل مؤلم وإخراج قسري وهما فريضتان يقوم بهما المسلم ضد من يعتدي على نفسه وعلى أرضه وحرماته وأحيانا تأتي هاتان الفريضتان عن طريق النهي عن معايشة المعتدي والإستسلام لسلطانه والنهي عن إخلاء الوطن له بالهجرة والهروب من المواجهة الجهادية أو بالخنوع والولاء للمعتدي قال تعالى ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم، أن تولوهم، ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنة 8 -9.
بل قد جعل الله من مات دفاعا عن الوطن أحد الشهداء الذين يتقبلهم الله برضى كما دل له قول الني صلى الله عليه وسلم :(من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد ".صححه الشيخ الألباني وقال :
أخرجه أبو داود (2 / 275) والنسائي والترمذي (2 / 316) وصححه، وأحمد (1652) 1653) عن سعيد بن زيد، وسنده صحيح. وفي رواية "" من قتل دون مظلمته فهو شهيد " "أحكام الجنائز 1/42
كما دل على شرعية هذه الحرب وعلى أنها محببة عند الله وأن القائم بها منصور من الله مؤيد قوله تعالى : أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإنّ الله على نصرهم لقدير، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز( الحج 39- 40.
وهي سنة للمؤمنين قديمة رحب بها اتباع الأنبياء دفاعا عن الوطن والأهل والعرض والدين قال تعالى عن مثل هذا الموقف النبيل:
(قَاَلوُا وَمَاَ لََنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا... (246 سورة البقرة
كل ذلك يوضح أن المواطن يلزمه التشبث بالوطن تعميرا وتنمية وحماية ودفاعا وكان محمودا ما يبذله من أجل الوطن حتى لو أدى ذلك إلى استشهاده .
قسوة الخروج من الوطن :
يعتبر الإسلام إخراج الناس من أوطانهم جريمة كبرى لأنها تفصل المواطن عما تأصل بينه وبين وطنه من مشاعر حب وولاء يقودان إلى معيشة وتعمير وتنمية وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعبر عما يجد في نفسه من مرارة الخروج عن وطنه ففي سنن الترمذي بإسناد صحيح : عن عبد الله بن عدي بن حراء قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا على الحزورة فقال : " إنكِ لخيرُ أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجت منك ما خرجت "، قال العيني رحمه الله : " ابتلى الله نبيه بفراق الوطن "
وقد وضح القرآن الكريم الخيارات الصعبة التي فرضها المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) سورة الأنفال آية 30 وقد ذكر القرآن الكريم كذلك أن من الأنبياء السابقين من تعرضوا للحرمان القسري عن الأوطان قال تعالى :( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا) والخيارات الثلاثة تؤدي إلى نتيجة واحدة وهي إبعاد الدور الإيجابي للأنبياء وأتباعهم من الوطن فالمسجون والمنفي والمقتول كلهم سواء في إعاقة دورهم الدعوي والشرعي والريادي في المجتع وهذا ما يعايشه الدعاة السجناء في أرتريا منذ فجر الاستقلال وهو نفسه مايعانيه المهاجرون الأرتريون خارج وطنهم .
التعايش مع الوطن البديل :
ومعلوم ان الوطن البديل الذي يطرد إليه المواطنون ظلما لا يجد الإنسان فيه نفسه وربما أدى به ذلك إلى الانطواء والانحباس مع ذكرى الماضي الأليمة ومعالجة لهذا الموقف السلبي حرض الإسلام الإنسان المهاجر أن يتعايش مع الواقع الجديد في الوطن الجديد معمرا ومنميا وهذا أمر يتطلب التوفيق بين حب الوطن الأصل وذكرياته الطيبة وبين ضرورة التعايش مع الوطن الجديد وهذا لا يكون إلا بمجاهدة كبيرة من وسائلها الصبر والسعي والإنتاج والدعاء خوفا من أن تكون نفس المهاجر أسيرة للوطن الأصلي منكسرة ذليلة مصداق ذلك ما جاء في الشرع الحنيف الذي أوجب الهجرة عن الوطن الأصل إلى الوطن البديل وحرض عليه ووصفه بأنه واسع وأن من تعايش مع الذل والظلم في الوطن الاصيل بدل الهجرة موعود بالعقاب الأليم في جهنم يوم القيامة قال تعالى :
( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِير)
وحرض المواطن على الهجرة الإيجابية التي تأبى الضيم وتسعى في تغيير أنظمة الكفر والجور انطلاقا من الوطن البديل قال متحدثا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر.
فالآية الكريمة وصفت الصحابة المهاجرين بأنهم فقراء والسبب أنهم هاجروا من وطنهم وأموالهم لكن موقفهم مشاد به وذلك لكونهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وكانت هجرتهم نصرا لله ورسوله فهي هجرة بنية العودة واسترداد الوطن وحماية العرض والدين والنفس.
وهذا الموقف الإيجابي لصالح الوطن البديل يدل على شرعية حب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة الوطن البديل وتعميره إياها وأنه صلى الله عليه وسلم أخذ يعالج موقف الصحابة المهاجرين المتعلق بالوطن الأصلي والمتضايق من الوطن الجديد الذي وصفه بعضهم بأنه أرض الوباء مقارنا بين مكة المكرمة وبين المدينة المنورة فقد أخرج البخاري أن بلالاً قال: اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وعُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ كمَا أخْرَجُونَا مِنْ أرْضِنَا إلَى أرْضِ الوَباءِ". وهذا موقف غير متعايش مع الوطن الجديد ونظرة سلبية منكسرة متألمة اقتضت من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم بالمعالجة بهدف أن يتحول موقف المهاجرين إلى حب وبناء وتنمية الوطن الجديد المدينة المنورة راضين ومجتهدين وكان صلى الله عليه وسلم – إذا خرج مجاهدا - يسرع بالعودة إلى المدينة اشتياقا إليها ففي صحيح البخاري : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته (أي أسرع بها).. قال ابن حجر - رحمه الله - : " فيها دلالة على فضل المدينة، وعلى حب الوطن والحنين إليه " ومجاهدات الرسول الله عليه وسلم لتربية وترويض أصحابه على حب الوطن الجديد تمثلت في توجيهم بالعمل والانتاج مثل بقية المواطنين الاصليين الانصار وفرض حب المدينة المنورة عليهم والدعاء لهم بنقل الوباء عن المدينة وفرض الهجرة إليها وتأسيس دولة الإسلام الأولى فيها وجعل نفسه واحدا من الأنصار حتى بعد الفتح كل ذلك يفيد أن الهجرة من الوطن الاصلي إلى الوطن الجديد تتطلب مجاهدة كبيرة بهدف ترويض المهاجر ليكون لبنة إيجابية في الوطن الجديد دون أن ينسى الوطن الأصلي
العمل لاستراداد الوطن السليب :
إن من سنة الأنبياء العمل لاستعادة أوطانهم التي هاجروا منها قسرا متى توفرت لهم أسباب العودة وفرصة تغيير الأنظمة المستبدة التي أخرجتهم من أوطانهم وليس من الحق في شيء أن ينسى الإنسان وطنه الأصلي الذي خرج منه قسرا وليس من الحق في شيء أن يؤدي ما يجد المهاجر في الوطن البديل من أسباب الاستقرار والرفاهية إلى نسيان ما عليه من واجب العمل لاستراداد الوطن الأصلي وهذه مسيرة الأنبياء تشهد أنهم تشبثوا بأوطانهم ابتداء إلى درجة التضحية بأنفسهم على يد الجبابرة ومن هاجر منهم – وهي حالة استثنائية - تحت ضغوط الابتلاء كانت منهم العودة الظافرة إلى الوطن الأصيل فهذا موسى عليه السلام يعود إلى وطنه التي كان قد هاجر منها خوفا على نفسه قال تعالى : (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ). (القصص : 29 ).
قال ابن العربي في "أحكام القرآن":
"قال علماؤنا لما قضى موسى الأجل طلب الرجوع إلى أهله وحنّ إلى وطنه"). (القصص : 29
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم يعود إلى وطنه الأصلي مكة المكرمة فاتحا محررا يتلو قول الله تعالى ( قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا )
الخلاصة :
إن الإسلام يعطي تقديرا خاصا للاوطان والعلاقة التي تربط الإنسان بها ويمنح الإنسان الوطن بموجب الإحياء والتعمير والتنمية ويحرم على الآخرين انتزاع وطنه منه ويوجب على المواطن حماية هذه الأرض الوطن الذي قام بتعميره وتنميته وإن هذه الحماية والدفاع إن أدت إلى الموت فالقائم بها شهيد عند الله رفيع المنزلة وأنه لا يجوز للمواطن مغادرة وطنه بالهجرة عنها في حالة الاختيار فإن حصل تحت ظروف قاهرة وهاجر يلزمه أن يعيش مواطنا صالحا في الوطن البديل كما يلزمه أن يسعى لتحرير وطنه الاصلي وأن يسخر ما وجد من إمكانيات مادية في الوطن البديل لصالح تحرير الوطن الأصلي لأن كل وطن أهلوه أحق به وعليهم تقع مسؤولية تخليصه من السلطان الجائر ومن المعيب هجرتهم إلى خارج وطنهم ما لم تكن هذه الهجرة اضطرارية ومبررة وموقتة .
د. حامد محمد إدريس
1/9/2011م

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة لمدونة . 2013