الأربعاء، 15 مارس 2017

امَّة تجلس فوق صفيح ساخن


امَّة تجلس فوق صفيح ساخن

أبو فراس الحمداني الفارِسُ المهاب تخاذلَ إبنُ عمِّهِ في فكاكِ أَسْرِهِ، وذلك خوفا من طموحه في السلطة والزعامة ! فأنشد في محبسه هذه الأبيات التي شهق فيها بالآلام. 
إنّا، إذَا اشْتَدّ الزّمَا        ***       نُ، وَنَابَ خَطْبٌ وَادْلَهَم
ألفيتَ، حولَ بيوتنا        ***      عُدَدَ الشّجَاعَة، وَالكَرَمْ
لِلِقَا العِدَى بِيضُ السّيُو    ***     فِ، وَلِلنّدَى حُمْرُ النَّعَمْ
هَذَا وَهَذَا دَأبُنَا            ***     يودى دمٌ، ويراقُ دمْ
إنّي، وَإنْ شَطّ المَزَا       ***      رُ وَلمْ تَكُنْ دَارِي أُمَمْ
أصْبُو إلى تِلْكَ الخِلا     ***       لِ، وأصطفي تلكَ الشيمْ
وألومُ عادية َ الفرا       ***         قِ، وَبَينَ أحْشَائي ألَمْ
ولعلَّ دهراً ينثني        ***       ولعلَّ شعباً يلتئمْ
هل أنتَ، يوماً، منصفي  ***   مِنْ ظُلمِ عَمّكَ؟ يا بنَ عَمْ.
فهل لو كان اليوم أبا فراس يعيش بين أبناء عمومته المعاصرين أ كان يكتفي بِبَثِّ شكواه أم يفجر من القهر أحشائه؟ تفريط إبن عمه عليه كان خوفا منه، أمَّا تفريط الأشقاء اليوم  في حق البعض يكاد يصعب فهمه.
هل سمعتم ببلد إسمه إرتريا ؟
لقد ذكرني هذا التسآؤل بقصة حدثت معي ومع شيخنا العلامة / محمد عمر إسماعيل - المعتقل في إرتريا منذ عام 1993م حيث توجه إليها بعد التحرير بعدما أكمل دراسته الجامعية والعليا في الأزهر الشريف-  وقد اصطحبني يوما ( فك اللهُ أسرَهُ) لزيارة أحد المشايخ الفضلاء خارج مدينة القاهرة، وقد صادف زيارتنا وجود أحد الدكاترة الجامعيين، وفي لحظة روغان الشيخ إلى أهله ليجيئ كعادته ( بالفطور الريفي المصري اللذيذ ) و المتضمن العسل، والفول، والفلافل، والخبز البلدي، وفي تلك الأثناء جاء ثلاث إخوة آخرين فتكرم السيد الدكتور بتقديمنا إليهم وأخبرهم بأنَّنَا من إرتريا كما عَرَّفَهٌ الشيخُ بنا قبل مجِيئِهم؛ فسأله أحدهم إرتريا دي فين؟  فقال الدكتور معرفا: هي دولة إفريقية بجانب السنقال . وتنبئُ هذه القصة عن مدي الحال الذي وصل إليه المثقف العربي الذي جعل حدودا مشتركة بين دولة في أقصى شرق إفريقيا بدولة فى أقصى غربها!.
وكان الإنسانُ العربيُّ قديماً عندما كان يركبُ الجملَ في الصحراءِ، والقاربِ الشراعيِ في البحرِ يعرفُ إِرِتِرْيا كما يعرف مدائن صالح وسوق عكاز، حتى أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال للصحابة: ( إن بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه) . قالت أم سلمة: (فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمِنَّا على ديننا ولم نخش منه ظلماً)
وَصِلَةُ العَربِ بإرتريا لم تكنْ وليدةُ هذه الهجرة الميمونة المباركة التي ضمت خيار الصحابة، ولكن كانت صلة رحم، وجوار وتواصل عبر جميع الحقب التاريخية، وقد ذكر المؤرخون بأن جميع من كان من أهل الحبشة في مكة قد بادروا لإعتنقاق الإسلام حبا وكرامة.
فإرتريا التي تستحوذ على أطول ساحل في البحر الأحمر، وتتحكم على مضيق باب المندب، وتطلُّ من مرتفعات العاصمة  أسمرا على الجزيرة العربية شمالا وجنوبا، من حقها أن تسأل ما سرُّ تجاهل ذوي القربي لها؟ بالرغم من تلهف أهلها لحضنهم العربي والإسلامي، وتناغمهم الدئم مع قضايا أمتهم في جميع المراحل، والمحطات التاريخية، وهي لم تنس أبدا كل من وقف معها من أجل تحرير ارضها وعلى رأسهم سوريا الشهبآء، وعراق الرافدين، وسودان النيلين، ومصر التاريخ والحضارة، وجزائر الثورة، وأرض الحرمين، وباكستان الإسلام، وصومال الخيرات، وغيرها من البلدان العربية والإسلامية.، ولكن للأسف اليوم قد محُيٍتْ من أجندة الساسة العرب، ومن قرطاس الصحفي، وإهتمام المواطن العربي! وقد أدركا أهميتها الكيان الصهيوني، والنظام الإيراني حيث تسابقا لكسب ودها، وإيجاد موطئ قدم في أرضها، وهي اليوم تئنُّ  دون أن يسمع أنينها أحد! والسبب يحكمها نظام جرَّدها من كل ما يربطها بالعالم الخارجي حيث لا إنترنيت، ولا صحافة حرّة ولا مقيدة، ولا برلمان حقيقي ولا مزور، ولا أحزاب قوية ولا كرتونية، كل ما هنالك  تلفزيون يتيم الأم والأب، وحكومة مؤقتة تأبي الرسمية مهما طال الزمن، ورئيس يرفض التنحي مهما كان الثمن، ومئات السجون السرية، وأكثر من عشرة آلاف مختطف على حسب التقارير الإعلامية، والمنظمات الحقوقية الدولية،وشعب يهرب يوميا من البلد بالمئات، وقد تم إغلاق كل الأوعية الساسية، والإجتماعية، والثقافية! فجامعة أسمرا تم تمزيقها إلى كليات وتشتيتها في الأقاليم حتي لا تشكل وعيا متناميا، وتم غلق وطرد كل الجمعيات الإغاثية، وسجن الصحفيين، ومنعت جميع وسائل الإعلام، حتي الحصول على الشريحة للمواطن من أصعب الأشياء، وللزائر ممنوع البتَّة، ومن يعترض على أي شيئ يُتَّهَمُ بأنه عميل وخائن للوطن، لأن الوطن قد إختزل في رئيس وحزب! وحتي السفر إلى الخارج غير مسموح به أصلا، ولا يتم التنقل في الداخل إلا عبر تصريح مرور أمني بالرغم من عدم وجود أي إخلال أمني، أو عملي إرهابي ينشر الرعب.
وفي إرتريا يجلس الطالب لإمتحان الشهادة الثانوية في معسكر شبه عسكري ومن لم يجتاز الإختبار يتم توجيهه مباشرة إلى  التجنيد في الجيش ليقضي فيه بقية عمره.
وفي إرتريا توجد لغتان رسميتان تم إقرارهما في البرلمان الإرتري في الخمسينات، وظلتا معمولا بهما حتي الإستقلال، ولكن اليوم تم محاربة اللغة العربية وتهميشها، وأصبحت لغة المحادثة والإدارة ( التقرنية) وهي لغة محلية، بينما كانت في الأربعينات اللغة العربية لغة الثقافة والفنون والصحافة والإذاعة في كثير من المدن الإرترية، وكانت في داخل الثورة لغة التثقيف والتدريب والتعليم والمحادثة بجانب اللغات المحلية المختلفة، ولكن النظام الحاكم جاء بمشروع تطوير اللغات حتي يحارب اللغة العربية .
ولوعدنا إلى موضوعنا الأصلي وهو تجاهل قضايانا الملحة، والدفاع عن شعوبنا المنكوبة، وعلقنا كلُّ المصائب في أعناق الحكام المجرمين، والمستبدين؛ فماعذر الكاتب، والمثقف، والداعية، والشباب الطموح أن يهتموا بأقرب وطن إليهم أرضا وشعبا وثقافة ورحما؟ وأنا أعتقدُ إذا لم نستيقظ من نومنا اليوم فإن مستقبل شعوبنا في المنطقة سوف يكون مهددا بالزوال خلال السنوات القريبة القادمة، ويكاد يحتار عقل الحليم كيف يتم محاصرة العرب من قبل الصهاينة والإيرانين، ومعظم شبابنا عاجز، بل يغطُّ في نوم عميق عن مواجهة الحرائق التي تحيط ببلدانهم من كل جانب؟ . 
إعتذار قبل الوداع:
أقدم اعتذاري عن كل ماذكرت لكم آنفا لأنني أفقتُ الآن من أحلام اليقظة التي انتابتني عندما كنت أسطر تلك الكلمات! حيث شرد ذهني بعيدا فتخيلت أني في زمن الملك فيصل وهو يهدر كالضرغام، وعبد الناصر في قاهرة المعز يدافع عن قضايا الشعوب، وصدام يهز سيف المعتصم في بغداد، وفي أرض الياسمين بورقيبة يستقبل قادة التحرير الإرتري والفلسطيني، وتخيلت بومدين متربعا في مجسله، ونميري يتجول في إفريقيا، وملوك الخليج يحتضون في أرضهم المستضعفين والمشردين من إخوانهم المسلمين.
أقدم إعتذاري لأنني شردتُ بعيدا إلي زمن البطولة، والأفكار النيرة، والثقافة الواسعة، والمجالس العلمية المتميزة؛ يوم كان شبابنا يتزاحمُ في مجالس العقاد، ويرتشف من كتاب وحي القلم، ويجالس الطيِّبَيْنِ في السودان، والعمراني في اليمن، والصواف في العراق، أو الغزالي في مصر، أو يتناغم طربا مع الجوهري في أرض الرافدين، أو درويش في أكناف الأقصى، أو الدنبجة في أرض شنقيط، أو الأميري في المغرب، أو الشابي في تونس الخضراء يزهوا في القمم، أو الفيتوري يزين إفريقيا كعقد مرصوعا بالدرر، أو ربما  اعتقدتُ أنَّ الشباب مايزال يتوافد إلى الأردن يقوي عزائمه مع العظم، وربما حسبتُ انَّهُمْ التفتوا إلى ينبوع الشعر المتدفق من ربى إرتريا من أوعية سكاب، أو كجراي، أو مدني، أو أحمد سعد.
أعتذر ياسادة فإن نسيت أنَّ هموم العربى تمطت وأصبحت فوقه كالغمامة، وظلا يصاحبه طول النهار،ويرتخي معه ليلا ليشاركه الفراش .
نسيت أن الثورات عَدَى عليها الثيران، وأن المال أصبح حلما للغلابة، وأن العدوا أصبح صديقا والصديق تقلق دونه الأبوابا، وأن العربي تبددت أحلامه، وأن سيفه سكن الأغماد.
 لن أنكر أنَّ في قنديل العربي مازال وهج البريق، وفي معصمه شارات البطولة، وفي أخلاقه جمال الذوق، وفي عزيمته قوة الشباب . وربما محن كانت منن، وإبتلاءات ممحصة لتنقية الوطن. 


                                                                                                                         محمد جمعة ابو الرشيد .

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة لمدونة . 2013