الأربعاء، 15 مارس 2017

نحنُ وهُمْ

نحنُ وهُمْ


قبل هجرتي إلى أروبا كانت قد تكونت عندي صورة نمطية، وهي أنَّ الإنسان الأروربي شخص متحرر عن أي قيم أخلاقية، وتعاليم ربانية، وبالتالي عاهدتُ نفسي أن أتصَبَّرَ كصبرِ القابض على الجمر، ولكن أعتقد أنَّ تجريدنا الكامل لهم عن ذلك ربما غير دقيق، وأنا اقول هذا من خلال تجربة عشرين عاما عايشتُ فيها كل الأصناف، والطوائف، والأديان، وسوف أتناول في هذه المقالة نموذجين فقط يدلَّانِ عن كيفية تربية أبنائهم، وأتناول في مقالة قادمة بإذن الله ( التربية الأخلاقية عندهم).

التعليمُ في أروبا يلعب دورا كبيرا في تشكيل شخصية الإنسان العلمية والتربوية، وسوف أكتفي  بسوق مثالين إثنين فقط وكما يقال: بالمثال يتضح الحال.

المثال الأول: إبني الذي كان يدرسُ في الصف الخامس الإبتدائي أحضَرَ معهُ رسالة من إدارة المدرَسَة تطلبُ فيها من أولياء الأمور الحضورَ في تمام الساعة الخامسة مساء يوم الأربعاء وذلك لمناقشة قضية محددة ، وسوف يستمر اللقاء ساعة ونصف، وكنت أحرص الناس على الحضور قبل الوقت ربما لكوني كنت ثانيَ إثنينِ من المسلمين، وقد وجدتُ المدير يستقبل أولياء الأمور عند مدخل المدرسة، ومعه مُدَرِّسَة تصطحبُ الضيفَ إلى مجلسهِ في القاعة، وبقيَّةُ المعلمين في داخل القاعة يعطي كل واحد منهم ملفا لوليِّ الأمر يحتوي على أعمال الطلاب، ومنهم من يرشد الآباءَ إلى مكان القهوة والشاي والبسكوتات، وكان كل شيئ مرتب كما ينبغي أن يكون؛ وقبل بداية الوقت بثلاث دقائق إعتلي المدرسُ المكلف بالبرنامج المنصَّةَ، وقد أخذ الجميع مقعده.

 بدء كلمته بالترحيب بالآباء والمعلمين، ثمَّ دخلَ في الموضوع مباشرةً وقال:  نشكرلكم حضوركم اللقاء، وقد دعوناكم  لإطلاعكم على جهود أبنائكم، وأحببنا أن نتكلم معكم بشكل جماعي لأن العمل والإنجاز كان جهدا طلابيا مشتركا، حيث شارك جميع طلاب الصف الخامس في برنامج ( التعرف على مرافق النقل وكيفية عملها) وذكر أنهم بدؤوا البرنامج قبل شهرين حيث قام كل معلم بشرح مبسط لطلابه عن وسائل النقل البرية، والبحرية، والجوية، ثم أتبعوا ذلك بالرسومات الجميلة، وأشار علي بعض النماذج المعلقة منها في الحائط، وكانت بقية الرسومات والصور في ملف الطلاب، وذكر أنهم  بدؤوا النشاط بركوب الدراجات، وكيفية استخدامها الإستخدام السليم، والإلتزام بالسير بالطرق المحددة، والوقوف في الأماكن المخصصة، وشكر إدارة المطار، والقطارات، والموانئ البحرية، الذين خصصوا يوما لزيارتهم، حيث استقبلهم المدراء والموظفون، وشرحوا لهم بالتفصيل عن كيفية عمل هذه المرافق، والقوانين التي ينبغي أن يلتزم بها كل مواطن، وكان شيئ مثير للطلاب أن يصعدوا إلى قمرة القيادة ويستقبلهم القائد ويشرح لهم بنفسه، ويستمع لإستفساراتهم، ومن ثم توجه بالشكر إلى رجل المرور الذي كان حاضرا معنا، وطلب منه أن يتقدم ويشرح للآباء العمل الرائع الذي قام به مع الطلاب والمدرسين. تحدث الشرطي عشرين دقيقة شكر فيها إدارة المدرسة، وأولياء الأمور، وذكر أنه رافق الطلاب مع معلميهم إلى إشارات المرور العامة، وشرح لهم كيفية استخدامها، وطلب من أي طالب أن يسجل أي مخالفة يراها من قبل السائقين في الشارع ، ومن ثم أخذ الطلاب إلى شارع ضيق، وشرح لهم خطورة عدم الإنتبهاه، أولعب الكرة في الساحات غير المخصصة للعب، وقد إستوعب الطلاب كل ما شرح لهم، وطلب من أولياء الأمور الإلتزام الدقيق بكل القوانين الخاصة بالسلامة والحفاظ على أرواح ابنائهم، وأهمها: عدم السرعة، وربط الأحزمة، وعدم القيادة بعد تناول الكحوليات مباشرة، أو استخدام الهواتف، وقام بعرض فلم قصير يتناول حوادث ضخمة حدثت بسبب التهاون في قانون السلامة ، وذكر أنهم مستعدون للتعاون بإزالة أو إصلاح أيّ شيئ يتعلق بمحيط المدرسة من أجل سلامة الطلاب، و من ثم تحدث مقدم البرنامج وقال: نحن عرَّفنا الطلاب أن إحترام إشارات المرور واجب أخلاقي ومطلب قانوني، وقد دعوناكم حتي نطلعكم على ما قمنا به من توجيه الأبناء، وحتى لا يتم تناقض أو تشويش في ذهن الأطفال أحببنا أن تكونوا غاية في الحرص فى الإلتزام بقواعد المرور، وأن تأكدوا على ابنائكم أهمية الموضوع.

 ويسعدني أن أحكي لكم ماحدث لي مع أبنائي عندما كنت في زيارة شقيقي المقيم في دولة عربية، وكُنَّا كُلَّما نركب السيارة معه نقومُ أنا وابنائي بربط الأحزمة، وكانوا يُلِحُّون على عمِّهم أن يفعل ذلك، ولكنَّه كان ينسى ذلك في كل مرَّة، وفي يوم من الأيام أوقفنا رجل المرور فجأة ثم نظر إلينا وطلب من شقيقي أن يوقف السيارة جانبا ويتبعه إلى حيث سيارة الشرطة، ورجع إلينا وفي يده غرامة مخالفة، فبدء أبنائي يقولون لعمِّهِم: ما قلنا لك افضل أن تربط الحزام؟

والدرس الذي تعلمته من هذا اللقاء هو إشراك البيت في العملية التربوية والتعليمية، وغرس الضوابط والقيم المجتمعية في وقت مبكر من العمر بأسلوب ماتع وجذَّاب حيث يشعر أنه في رحلة علمية ممتعة، ويطلع على معلومات حتى نحن الكبار غير متاحة لنا ، فأنا مثلا في حياتي لم أدخل إلى قمرة الطيارة، ولا الباخرة، ولا القطار.

المثال الثاني: عندما كان إبني في السنة الأولى الإبتدائية، طلبت منا إدارة المدرسة التفضل بالمشاركة في إجتماع عام يعقد مساء يوم الجمعة، وإنَّ الإجتماع سوف يستمر ثلاث ساعات تتخله راحة لمدة عشر دقايق، وطلبوا منا إحضار أعمال أبنائنا اليومية، وبما أن معظمها رسومات لم أكن أحتفظت بها، ووجدت القليل منها بين ممزق، ومتسخ، وكانت المفاجئة لي أنَّ كلَّ وليُّ أمر حضر ومعه ملفٌ مرتب، ونظيف، ويحتوي على جميع أعمال الطالب؛ وكان عزائي أنَّ كلَّ منْ على شاكلتي من المهاجرين جاء خالي اليدين.
ولن أكرر ماذكرته من براعة الإستقبال ودِقَّةِ الترتيب، وحسن الضيافة، مع أن المدرستين مختلفتين. قال لنا مدير المدرسة: أنتم اليوم طلاب عندنا لمدة ثلاث ساعات! والغرض من الموضوع أحببنا أن تطلعوا على جهود المعلمين، ومدى الإرهاق والجهد الذي يبذله أبنائكم، وحتي لا يقلل بعضكم جهود الأبناء ويعتبره مجرد رسومات مسلية، وطلب منَّا أن نتوجه بعد سماع الجرس إلى فصل ابنائنا، والجلوس على كراسيهم، وطلب منا المعلِّمْ أن نرسم المدرسة، وقال متبسما: لا تقلدوا رسومات أبنائكم فإنَّهم سوف يدققون على رسوماتكم أكثر مما تفعلون أنتم، وأريد غدا أن يفخر بكم أبناؤكم عندما يطلعون على رسوماتكم الرائعة وذكر أن الوقت المحدد لهذه الفقرة عشرون دقيقة فقط،ثم طلب منا بعد ذلك إنجاز أعمال جماعية بعد أن قسمنا إلى مجموعات صغيرة، ورأيت الآباء المهاجرين في معانآة شديدة، لدرجة أن أخ أفغاني تبرم جدا، وإنصرف بحجة أنه ليس طفل حتي يضيع وقته فى امور تافهة!

وقد تعلمت من هذا الدرس أن إبني فعلا يمكن أن يتفوق علىَّ وهو في عمر خمس سنوات، وأدركت أن التعليم والتربية السليمة لا تتم إلا بتقدير جهود أطفالنا، ومشاركتهم في أعمالهم اليومية.
وأعتقد نحن في حاجة ماسَّة إلى التعليم الجيد، والبيت المتابع، والمدرسة المتفاعلة، وا لأهم من ذلك أن نرفع من شأن المعلم ماديا ومعنويا، وينبغي أن يتم تعيين أكفأ المعلمين في مراحل الأساس وبأجور تكاد تقترب من أجور الوزراء، وأن نسن قوانين واضحة لحماية الطفل حتي يتربي بثقة وأمان وقلبه مفعم بحب مجتمعه ووطنه.


محمد جمعة أبو الرشيد

امَّة تجلس فوق صفيح ساخن


امَّة تجلس فوق صفيح ساخن

أبو فراس الحمداني الفارِسُ المهاب تخاذلَ إبنُ عمِّهِ في فكاكِ أَسْرِهِ، وذلك خوفا من طموحه في السلطة والزعامة ! فأنشد في محبسه هذه الأبيات التي شهق فيها بالآلام. 
إنّا، إذَا اشْتَدّ الزّمَا        ***       نُ، وَنَابَ خَطْبٌ وَادْلَهَم
ألفيتَ، حولَ بيوتنا        ***      عُدَدَ الشّجَاعَة، وَالكَرَمْ
لِلِقَا العِدَى بِيضُ السّيُو    ***     فِ، وَلِلنّدَى حُمْرُ النَّعَمْ
هَذَا وَهَذَا دَأبُنَا            ***     يودى دمٌ، ويراقُ دمْ
إنّي، وَإنْ شَطّ المَزَا       ***      رُ وَلمْ تَكُنْ دَارِي أُمَمْ
أصْبُو إلى تِلْكَ الخِلا     ***       لِ، وأصطفي تلكَ الشيمْ
وألومُ عادية َ الفرا       ***         قِ، وَبَينَ أحْشَائي ألَمْ
ولعلَّ دهراً ينثني        ***       ولعلَّ شعباً يلتئمْ
هل أنتَ، يوماً، منصفي  ***   مِنْ ظُلمِ عَمّكَ؟ يا بنَ عَمْ.
فهل لو كان اليوم أبا فراس يعيش بين أبناء عمومته المعاصرين أ كان يكتفي بِبَثِّ شكواه أم يفجر من القهر أحشائه؟ تفريط إبن عمه عليه كان خوفا منه، أمَّا تفريط الأشقاء اليوم  في حق البعض يكاد يصعب فهمه.
هل سمعتم ببلد إسمه إرتريا ؟
لقد ذكرني هذا التسآؤل بقصة حدثت معي ومع شيخنا العلامة / محمد عمر إسماعيل - المعتقل في إرتريا منذ عام 1993م حيث توجه إليها بعد التحرير بعدما أكمل دراسته الجامعية والعليا في الأزهر الشريف-  وقد اصطحبني يوما ( فك اللهُ أسرَهُ) لزيارة أحد المشايخ الفضلاء خارج مدينة القاهرة، وقد صادف زيارتنا وجود أحد الدكاترة الجامعيين، وفي لحظة روغان الشيخ إلى أهله ليجيئ كعادته ( بالفطور الريفي المصري اللذيذ ) و المتضمن العسل، والفول، والفلافل، والخبز البلدي، وفي تلك الأثناء جاء ثلاث إخوة آخرين فتكرم السيد الدكتور بتقديمنا إليهم وأخبرهم بأنَّنَا من إرتريا كما عَرَّفَهٌ الشيخُ بنا قبل مجِيئِهم؛ فسأله أحدهم إرتريا دي فين؟  فقال الدكتور معرفا: هي دولة إفريقية بجانب السنقال . وتنبئُ هذه القصة عن مدي الحال الذي وصل إليه المثقف العربي الذي جعل حدودا مشتركة بين دولة في أقصى شرق إفريقيا بدولة فى أقصى غربها!.
وكان الإنسانُ العربيُّ قديماً عندما كان يركبُ الجملَ في الصحراءِ، والقاربِ الشراعيِ في البحرِ يعرفُ إِرِتِرْيا كما يعرف مدائن صالح وسوق عكاز، حتى أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال للصحابة: ( إن بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه) . قالت أم سلمة: (فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمِنَّا على ديننا ولم نخش منه ظلماً)
وَصِلَةُ العَربِ بإرتريا لم تكنْ وليدةُ هذه الهجرة الميمونة المباركة التي ضمت خيار الصحابة، ولكن كانت صلة رحم، وجوار وتواصل عبر جميع الحقب التاريخية، وقد ذكر المؤرخون بأن جميع من كان من أهل الحبشة في مكة قد بادروا لإعتنقاق الإسلام حبا وكرامة.
فإرتريا التي تستحوذ على أطول ساحل في البحر الأحمر، وتتحكم على مضيق باب المندب، وتطلُّ من مرتفعات العاصمة  أسمرا على الجزيرة العربية شمالا وجنوبا، من حقها أن تسأل ما سرُّ تجاهل ذوي القربي لها؟ بالرغم من تلهف أهلها لحضنهم العربي والإسلامي، وتناغمهم الدئم مع قضايا أمتهم في جميع المراحل، والمحطات التاريخية، وهي لم تنس أبدا كل من وقف معها من أجل تحرير ارضها وعلى رأسهم سوريا الشهبآء، وعراق الرافدين، وسودان النيلين، ومصر التاريخ والحضارة، وجزائر الثورة، وأرض الحرمين، وباكستان الإسلام، وصومال الخيرات، وغيرها من البلدان العربية والإسلامية.، ولكن للأسف اليوم قد محُيٍتْ من أجندة الساسة العرب، ومن قرطاس الصحفي، وإهتمام المواطن العربي! وقد أدركا أهميتها الكيان الصهيوني، والنظام الإيراني حيث تسابقا لكسب ودها، وإيجاد موطئ قدم في أرضها، وهي اليوم تئنُّ  دون أن يسمع أنينها أحد! والسبب يحكمها نظام جرَّدها من كل ما يربطها بالعالم الخارجي حيث لا إنترنيت، ولا صحافة حرّة ولا مقيدة، ولا برلمان حقيقي ولا مزور، ولا أحزاب قوية ولا كرتونية، كل ما هنالك  تلفزيون يتيم الأم والأب، وحكومة مؤقتة تأبي الرسمية مهما طال الزمن، ورئيس يرفض التنحي مهما كان الثمن، ومئات السجون السرية، وأكثر من عشرة آلاف مختطف على حسب التقارير الإعلامية، والمنظمات الحقوقية الدولية،وشعب يهرب يوميا من البلد بالمئات، وقد تم إغلاق كل الأوعية الساسية، والإجتماعية، والثقافية! فجامعة أسمرا تم تمزيقها إلى كليات وتشتيتها في الأقاليم حتي لا تشكل وعيا متناميا، وتم غلق وطرد كل الجمعيات الإغاثية، وسجن الصحفيين، ومنعت جميع وسائل الإعلام، حتي الحصول على الشريحة للمواطن من أصعب الأشياء، وللزائر ممنوع البتَّة، ومن يعترض على أي شيئ يُتَّهَمُ بأنه عميل وخائن للوطن، لأن الوطن قد إختزل في رئيس وحزب! وحتي السفر إلى الخارج غير مسموح به أصلا، ولا يتم التنقل في الداخل إلا عبر تصريح مرور أمني بالرغم من عدم وجود أي إخلال أمني، أو عملي إرهابي ينشر الرعب.
وفي إرتريا يجلس الطالب لإمتحان الشهادة الثانوية في معسكر شبه عسكري ومن لم يجتاز الإختبار يتم توجيهه مباشرة إلى  التجنيد في الجيش ليقضي فيه بقية عمره.
وفي إرتريا توجد لغتان رسميتان تم إقرارهما في البرلمان الإرتري في الخمسينات، وظلتا معمولا بهما حتي الإستقلال، ولكن اليوم تم محاربة اللغة العربية وتهميشها، وأصبحت لغة المحادثة والإدارة ( التقرنية) وهي لغة محلية، بينما كانت في الأربعينات اللغة العربية لغة الثقافة والفنون والصحافة والإذاعة في كثير من المدن الإرترية، وكانت في داخل الثورة لغة التثقيف والتدريب والتعليم والمحادثة بجانب اللغات المحلية المختلفة، ولكن النظام الحاكم جاء بمشروع تطوير اللغات حتي يحارب اللغة العربية .
ولوعدنا إلى موضوعنا الأصلي وهو تجاهل قضايانا الملحة، والدفاع عن شعوبنا المنكوبة، وعلقنا كلُّ المصائب في أعناق الحكام المجرمين، والمستبدين؛ فماعذر الكاتب، والمثقف، والداعية، والشباب الطموح أن يهتموا بأقرب وطن إليهم أرضا وشعبا وثقافة ورحما؟ وأنا أعتقدُ إذا لم نستيقظ من نومنا اليوم فإن مستقبل شعوبنا في المنطقة سوف يكون مهددا بالزوال خلال السنوات القريبة القادمة، ويكاد يحتار عقل الحليم كيف يتم محاصرة العرب من قبل الصهاينة والإيرانين، ومعظم شبابنا عاجز، بل يغطُّ في نوم عميق عن مواجهة الحرائق التي تحيط ببلدانهم من كل جانب؟ . 
إعتذار قبل الوداع:
أقدم اعتذاري عن كل ماذكرت لكم آنفا لأنني أفقتُ الآن من أحلام اليقظة التي انتابتني عندما كنت أسطر تلك الكلمات! حيث شرد ذهني بعيدا فتخيلت أني في زمن الملك فيصل وهو يهدر كالضرغام، وعبد الناصر في قاهرة المعز يدافع عن قضايا الشعوب، وصدام يهز سيف المعتصم في بغداد، وفي أرض الياسمين بورقيبة يستقبل قادة التحرير الإرتري والفلسطيني، وتخيلت بومدين متربعا في مجسله، ونميري يتجول في إفريقيا، وملوك الخليج يحتضون في أرضهم المستضعفين والمشردين من إخوانهم المسلمين.
أقدم إعتذاري لأنني شردتُ بعيدا إلي زمن البطولة، والأفكار النيرة، والثقافة الواسعة، والمجالس العلمية المتميزة؛ يوم كان شبابنا يتزاحمُ في مجالس العقاد، ويرتشف من كتاب وحي القلم، ويجالس الطيِّبَيْنِ في السودان، والعمراني في اليمن، والصواف في العراق، أو الغزالي في مصر، أو يتناغم طربا مع الجوهري في أرض الرافدين، أو درويش في أكناف الأقصى، أو الدنبجة في أرض شنقيط، أو الأميري في المغرب، أو الشابي في تونس الخضراء يزهوا في القمم، أو الفيتوري يزين إفريقيا كعقد مرصوعا بالدرر، أو ربما  اعتقدتُ أنَّ الشباب مايزال يتوافد إلى الأردن يقوي عزائمه مع العظم، وربما حسبتُ انَّهُمْ التفتوا إلى ينبوع الشعر المتدفق من ربى إرتريا من أوعية سكاب، أو كجراي، أو مدني، أو أحمد سعد.
أعتذر ياسادة فإن نسيت أنَّ هموم العربى تمطت وأصبحت فوقه كالغمامة، وظلا يصاحبه طول النهار،ويرتخي معه ليلا ليشاركه الفراش .
نسيت أن الثورات عَدَى عليها الثيران، وأن المال أصبح حلما للغلابة، وأن العدوا أصبح صديقا والصديق تقلق دونه الأبوابا، وأن العربي تبددت أحلامه، وأن سيفه سكن الأغماد.
 لن أنكر أنَّ في قنديل العربي مازال وهج البريق، وفي معصمه شارات البطولة، وفي أخلاقه جمال الذوق، وفي عزيمته قوة الشباب . وربما محن كانت منن، وإبتلاءات ممحصة لتنقية الوطن. 


                                                                                                                         محمد جمعة ابو الرشيد .

أطفالنا وأطفالهم

أطفالنا وأطفالهم
الأطفال لا يعرفون التمييزولا التفرقة ولا العنصرية، ولكن أنا الذي رأيت الفرق الكبير بين أطفالنا وأطفالهم، بالتأكيد ليست فروق جسمانية فربما أطفالنا أكثر وسامة وأسرع بداهة، لكن الفرق في السلوكيات والتعامل.
وينشأ ناشئ الفتيان فينا        على ما كان عوده أبوه.
سوف أتناول أساليب التربية العملية التي يتبعها غالبية الأروبيون مع أبنائهم فما وافق منها ديننا وتقاليدنا أخذنا به، وما خالف ذلك طرحناه جانبا.
الأبوان الأروبيان عندما يرغبان في الإنجاب يخططان لذلك حيث يبحثان عن دورات متعلقة بالأمومة والأبوة، ويطلبان ارشادات من الجمعيات المتخصصة، ويستشيران أهل الخبرة والدراية، وعادة يتفقان على عدد الأطفال الذين يرغبان في إنجابهم، ثم يبدءان بتهيئة الظروف بحيث يستعد أحدهما لتخفيف عمله، وترتيب الإجازات بحيث يجدان وقتا لإستقبال مولودهم استقبالا لائقا، وغالبا إذا رغبا في إنجاب أكثر من طفل يكون متتابعا بحيث يتعبان سنوات قليلة سواء في الإنجاب او التربية، ومن الترتيبات المهمة جدا أن يحصلا على بيت كاف، وسيارة وغيرها من الضروريات التي تكفل الراحة لأطفالهما.
يستشعر الأب الأروبي مسؤولية كبيرة تجاه زوجته في مرحلة الحمل ، فيراعي أحوالها النفسيه، ويقوم على خدمتها بكل طاقته، وفي أثناء الولادة يبقي بجانبها يشجعها ويخفف عليها آلآم المخاض، ومن ثم تبدء الأسرة مرحلة الفرحة والسرور والتوثيق للطفل في كل مرحلة من مراحل حياته، ويتحدثان معه كأنه طفل واعي لأنهما يدركان بأن الكلام الذي سوف ينطق به مكتسب ، وغالبا لا يميلان الى تكسير اللغة أو التقليل من مفرداتها، ولذلك الطفل الأروبي ينطق سريعا وبمفردات وافرة، وتكون غرفته مليئة بكل الأولوان التي تعبر له عن الفرحة والسرور والمعرفة، ويستغلان كل مساحة متوفرة في الغرفة، وتكون الأدوات والألعاب المستخدمة تتوفر فيها عوامل السلامة فلا تكون الطاولات ذات زوايا حادة، والكراسي لا تكن مرتفعة والسرير تكون فيه حواجر، وأدوات الكهرباء مؤمنة، والألعاب ناعمة أو بلاستيكية ولا تصدر اصواتا مرتفعةجدا، ولا انوار خاطفة للأبصار.
الطفل تنظم له ساعات طعامه، ونومه بشكل دقيق جدا، فلا يمكن أن تجد طفل خارج سريره بعد الساعة الثامنة ليلا سواء كان في فترة الدراسة او العطلة، لأن الوالدين عادة يكونان في حاجة للراحة، والجلوس مع بعضهما، والترتيب للغد، ثم ينومان مبكرا بالكثير بعد ساعة من نوم الطفل بحيث يستيغظان معه، وأول ما يبدء الطفل محاول الأكل بيده، أو يحاول النزول أوالصعود فإنهما غالبا لا يساعدانه الاّ إذا لم يستطع، وحتى إذا سقط في الأرض فيطلبان منه النهوض بنفسه.
يعلمان الطفل منذ صغره المسموح والممنوع، فإذا سمحا الوالدان والاّ لا يمكن التراجع، وكنت أعتقد في بداية قدومي على أروبا أن هذا شيئ من القسوة، فكنت أرى الطفل يطلب مثلا أن يلعب في داخل السوق في الأماكن المخصصة للعب الأطفال، أو يرغب أن يشتروا له لعبة أعجبته، فيرفض الوالدان فيبكي الطفل ويتعلق عليهما ويتوسل لهما، ولكنهما يعتذران له ويفهمانه لماذا لا يريدان الشراء له، فإذا أصرَّ تركاه حتى يسكت، ولا يتبرمان أو يستحيان من كثرة بكائه، وتوسلاته بل مستحيل أن يرجعا في كلاميهما حتى لو خرجت روحه نفسا نفسا ، ولذلك يتعلم الطفل منذ نشأته نعم ولا.
عادة توجد في كل بيت أروبي مكتبة متنوعة، وغالبا يكون للطفل في غرفته مكتبة صغيرة خاصة به، وصندوق توضع فيه الألعاب، ومن المعتاد أنهما يقرءان له كل يوم من هذه الكتب وخاصة قبل النوم، ويكون عنده دفاتر وأقلام وكتب رسومات كافية، وعندما يستخدم هذه الأدوات مطلوب منه أن يرجع كل شيئ في مكانه، وأن يرتب الغرفة كما كانت، فلا يمكن نهائيا أن يترك  الأشياء مرمية في الأرض، وإلا يحرم من كل شيئ حتي اللعب في الخارج، وحتى اللعب مع الوالدين، ولا يمكن الشفقة عليه قط حتى يقوم بترتيب كل شيئ كما كان .
عادة عندما يخرجون خارج المنزل يضعان للطفل في شنطته مجموعة من الكتب الصغيرة المختارة بعناية بحيث تناسب المشوار فإذا كانت زيارة مشفى فربما تكون القصة تدرو حول المجال الطبي، وإذا كانت رحلة خلوية ربما تدورحول الطبيعة والحفاظ عليها، وإذا كانت إلى حديقة الحيوان تدرو حول الحيوانات، وأنواعها واسمائها، فالأم الأروبية تجدها في لحظات الإنتظار في الأماكن العامة ، أو في أثناء السفر في المواصلاة العامة تقرء لإبنها أو تستمع له وهو يقرء لها أو تناقشه في أمر ما.
في الأماكن العامة غير مسموح للطفل أن يجري أو يتكلم بصوت عالي، أو يعبث بأغراض الآخرين، وغير مقبول البتَّة تخطي الصفوف لشراء شيئ أو دخول حمام، مهما كانت ضرورته وحاجته، وإذا حدث منه خطأ في حق شخص آخر مطلوب منه الإعتذار مباشرة ومن غيرتردد.
يعلم الطفل المشاركة في شؤون البيت على حسب عمره، وعادة عندما يكون عمره عشرين عاما يستطيع أن ينظف ويطبخ ويغسل ويكوي، ويقود السيارة، ويمتلك حساب في البنك، وعمل ودراسة بحيث يستطيع الإعتماد الكامل على نفسه بل يكون من سن الثامنة عشرة في كامل الجهوزية.
إذا وعدا الوالدان بشيئ فلا بد أن يحققان له ذلك ولذلك لا يمكن أن يقولا لكل طلب : حاضر! كويس! طيب ! من غير تفكير ولا نظر، وإذا هو وعد بشيئ فلا بد أن يحرص على القيام به سواء كان لهما او للآخرين.
الوالدان يحرصان كل الحرص على عدم الكذب على ابنهما، ولا يتسامحان معه قط إذا كذب في شيئ، ولا يعاقب في الصدق أبدا ولكنه يعاقب إذا كذب، ولذلك الابناء صفحة مكشوفة أمام الوالدين مهما كانت المخالفة والخطأ، فإن الخطأ في نظرهم يمكن تداركه لكن الكذب لا يمكن علاجه.
يتعلم الطفل الإنضباط في المواعيد فإذا قالوا له سوف نخرج غدا الى الحديقة في الساعة كذا: تجدهم يتحركون في نفس الوقت تماما ، ويعودون في الوقت المحدد بالضبط، وإذا قالوا : الوقت المسموح للعب أو المشاهدة ساعة مثلا فمطلوب منه أن يلتزم تماما وإلا يتعرض للحرمان والغضب، ويوصلانه للمدرسة على الأقل قبل عشر دقائق من بداية الدراسة، وينتظرانه عند نهاية الدراسة في باب المدرسة بكل شوق وترحاب، وإذا خصصوا له مصروف كل كل إسبوع فعليه تدبير إحتياجاته وفق ميزانيته المحددةن وإلا لا يمكن إعطائه أي فلس آخر مهما كانت مبرراته، وهذا عند الجميع سواء كان ابن ملياردين أو فقير.
يعلمون الأطفال المغامرات، والتجريب، فتجدهم يعلمونهم ركوب الخيل، والرماية، والسباحة، والتزحلق الجليدي، والرحلات البرية والجبلية، ويسجلانه في نوادي رياضية.
لن اتناول جانب التربية عندنا ولكن يستطيع القارئ أن يقارن بنفسه تربيتنا الأخلاقية والسلوكية مع تربيتهم.

محمد جمعة ابو الرشيد

زمن المرض الخبيث

زمن المرض الخبيث

وكأن العالم الغربي  كان مريضا بالعنصرية يبحث عن مستر ( ترامب ) منذ سنوات !  ففور وصوله إلى البيت الأبيض فإذا بالعنصرية الكريهة تفوح من كل جانب، ويتحول نهار البيت الأبيض ظلاما أخلاقيا داكنا، ويتطاير منها التعصب العرقي في جميع الإتجاهات ! رجل أمريكي معاق يصر أن يركب الحافلة قبل الأجنبي المعاق، وشاب إفريقي يغرق أمام ( المتشوطئين ) في دولة اروبية فيتضاحكون مردديين: ( عد إلى إفريقيا ) ، وكاتبة غربية تقول لمحجة شكلك الديني يشتت فكري ويعكر مزاجي.

ويتنادى الشعبويون  في أروبا ويعقدوا لهم مؤتمرا صاخبا، ويلوحون بمعاصهم كدليل على العزيمة والإستمرار حتي يتم تقليم أظافر المسلمين، وطرد الأجانب عموما.!
هل كانت العنصرية في حاجة إلى ترامب لتحريك مياهها؟

أعتقد أنها كانت في حاجة ماسة لترامب لأن الطبقة السياسية في الغرب عموما قد ترهلت، وأصبحت خاضعة لكثير من القيود، والمصالح الذاتية؛ لدرجة أن السياسي الغربي  أصبح مختطفا من قبل اصوات الناخبين، واللوبيات المالية، والتكتلات الإثنية المختلفة، وأصبح الكاتب والمفكر خاضعا للمال، والموازنات، والضغوط المجتمعية. لن يستطيع اليوم أن يكتب  أي مفكر أو صحفي غربي مدافعا عن المسلمين إلاَّ ماندر وهذا النادر تلاحقه الضغوط المجتمعية، وتضيق عليه اللوبيات الإعلامية.

هل أحدث الحجر الترامبي تموجات في بركة الشعوب الغربية ؟
بالنسبة للشعوب الغربية في معظمها شعوب لا تستهويها المنازعات السياسية، والصراعات البينية،  إما لأنها مشغولة بقضاياها الخاصة، أو لأن ذاكرتها لم تزل معبئة بنتوءاتها التاريخية المخيفة، وصراعاتها الدينية المهلكة، ونزاعاتها العرقية المتعددة ، أو ربما لأن المذهب الفردي المصلحي مازال يسيطر على حركتها المادية والمعنوية، مما جعلها كثيرا في موقع المتفرج، وهذا ما عانت منه ( الحركات الشعبوية الغربية ) خلال العقدين الأخيرين من عدم التجاوب، والتفاعل الجماهيري الذي يمكن أن يحملهم  إلى سدة الحكم من أجل تنفيذ سياساتهم الإقصائية .
لم تزل هذه الشعوب بين منشغل بنفسه، وخائف على مستقبله، وإن تضايق من الأجنبي فقط لأنه يشاطره وظيفته، ويسرق منه ملامح وجهه، ويفسد عليه ذوقه، وخاصة لم يزل العنصر الوافد يعيش في كهف غربته من غير أن يقدم لوطنه الجديد أي مساهمة تذكر، وحتي لم يشارك في الحياة السياسية والإجتماعية حتى يدافع عن قضاياه الخاصة وقضايا أمته العامة، ولذلك كثير من الشعوب الغربية لم تستشعر بعض بخطر يهددها من هذا الوافد الجديد ! حتي ( الإرهاب الإعلامي) الذي صنعته جهات ذات اغراض متعددة لم يتفاعل تأثيره بالشكل الحاد الذي يطمع فيه مروجوه ؛ لأن الشباب الغربي مازال يقضي معظم يومه فى المدارس والجامعات مع أصدقائه من المسلمين فلم يعد عقله يهضم هذا الإرهاب الإعلامي المصبوب كالرصاص.

علما أن المناهج التعليمية الغربية لم تزل تدعوا الى القيم الإنسانية وإحترام قناعات وعادات الآخرين ، والمعلوم أيضا  هذه المناهج لم توضع  من اجل التسامح مع ( عبدي الصومالي ) أو إدريس الإرتري ) أو ( سيد أحمد ) السوداني، أو ( ميلود الجزائري ) أو ( طلال الخليجي ) أو ( مامادوا الغاني ) ولكنها مناهج وضعت لكي يتسامح ( بيتر ) البريطاني مع ( فانخوخ ) الهولندي مع ( الكساندرا ( الأسباني ) .
المناهج الفكرية والتعليمية هذه سوف تظل تغذي هذه الأجيال بالقيم الإنسانية المشتركة ، ولكن يوم تصل العنصرية الى مربي  الحضانات، وكراسي أساتذة المراحل الأساسية، وتوجيهات طلاب المدراس العليا، ومقاعد طلاب الجامعات والدراسات العليا يومها سوف تنفجر كل الأزمات القديمة في الغرب من جديد .
لعل المفكرون الغربيون وبعض الساسة والعقلاء يدركون هذه التحديات الداخلية القادمة فيعملون على مزيد من إرساء الجوانب المعرفية النيرة، والمبادئ الإنسانية المشتركة، والمبادئ الأخلاقية الراقية .


محمد جمعة ابو الرشيد 

جميع الحقوق محفوظة لمدونة . 2013